يحتفل العالم بالمئوية الأولى لولادة أحد أهم رموز الجاز في القرن العشرين. إنّه الموسيقي الذي أبدع في العزف على آلته، حتى ارتبط اسمها به
بشير صفير
لم يرتبط اسم آلة بعازفها في عالم الجاز مثلما ارتبطت الكلارينت بالأميركي بيني (أو بنيامين) غودمان (1909 ــــ 1986). عندما نقول كلارينت/جاز، يعني ذلك غودمان، الموسيقي الذي نحتفل هذه السنة بالمئوية الأولى لولادته. لهذا الارتباط الوثيق أسباب عدة أهمها: الكلارينت ليست آلة أساسية في الجاز (إذا قارناها بحضور البيانو والكونترباص والترومبت والساكسوفون وغيرها) وبالتالي، فاستخدامها لافتٌ في هذا الإطار. كما أنّ غودمان فرض حضوره عازف كلارينت ومؤلفاً موسيقياً بارعاً في مجتمع الجاز.



مقطع من "at sundown"







هذان العاملان جعلا من غودمان شخصية فريدة لا شريك لها في الجاز ولو وجدنا الكثير من عازفي الكلارينت المرموقين في هذه الموسيقى.
أحد أهم رموز الجاز في القرن العشرين، ولد في شيكاغو في كنف عائلة يهودية فقيرة مهاجرة من أوروبا. هذه الأصول الإثنية والدينية أيضاً مثّلت العنصر الأساسي في توجهات غودمان الموسيقية وحوافزه. فالكلارينت هي من الآلات «الرسمية» في الموسيقى الشعبية ليهود أوروبا (وخصوصاً الوسطى والشرقية).

ألّف فرقته من السود رداً على التمييز العنصري
ألمّ الولد الأبيض منذ صغره بموسيقى السود، فركب موجة الجاز (تحديداً بدايات هذه الموسيقى، أو ما يُعرف بالسوينغ) التي كانت رائجة آنذاك في الولايات المتحدة، وانخرط عازفاً مع أبرز الفرق الكبيرة (بيغ باندز) وإلى جانب أبرز الأسماء التي أصبحت أساطير لاحقاً (لويس أرمسترونغ، كاونت بايسي، إيلاّ فيتزجيرالد، بيلي هوليداي،...). بعد إتقانه لعبة الجاز تأليفاً وعزفاً، أسّس أواسط الثلاثينيات فرقته الخاصة التي ضمت عن قصد موسيقيين سوداً، وهو موقفٌ اتخذه غودمان كردّ فعل على التمييز العنصري الذي ساد لعقود في أميركا.
حقّق غودمان مع زملائه (أبرزهم عازف الفيبرافون ليونل هامبتون وعازف البيانو تيدي ويلسون) اسماً مرموقاً في الوسط الفني الأميركي، فاعتلى باكراً (1938) خشبة مسرح أهم صالة في نيويورك والعالم، الـ«كارنيغي هول»، وبات يُعرف بألقاب كبيرة مثل «ملك السوينغ» أو «باغانيني الكلارينت». اللقب الأول قد يكون مبالغاً فيه، بمعنى أن غودمان لا يمكن أن يكون الملك الوحيد أو المطلق في مجال السوينغ. أما اللقب الثاني فمُستمَدّ من تقنيات



مقطع من "miss brown to you" (billie holiday)







غودمان الصعبة ومهاراته العالية في العزف على آلته، تماماً مثل عازف الكمان والمؤلف الكلاسيكي من العصر الرومنطيقي، الإيطالي نيوكولو باغانيني (1782 ــــ 1840)، أو شيطان آلة الكمان. وهذا لقب لا يتقاسمه غودمان مع أحد، وهو يتربع وحيداً على عرش العزف الجازي على آلته.
ترك بيني غودمان العديد من المؤلفات الخاصة والتسجيلات التي قام بها مع فرقه لكلاسيكيات الجاز منذ أواخر الثلاثينيات، كما كانت له علاقة بالفن السابع عبر مشاركته عازفاً مع فرقته في العديد من الأفلام، أبرزها Sweet and Low-Down الذي كان له فيه أيضاً دور تمثيلي (أخرجه آرشي مايو عام 1944، وهو غير الفيلم الذي يحمل العنوان نفسه وتوقيع وودي آلِن).
إلى جانب الجاز، أدى غودمان أعمالاً كلاسيكية قليلة تُعدّ الكلارينت أساساً فيها، مثل خماسي الكلارينت وكونشرتو الكلارينت والأوركسترا الوحيد لموزار ومقطوعات لمؤلفين أميركيين معاصرين مثل آرون كوبلاند وليونارد برنشتاين وجورج غرشوين وغيرهم. في هذا السياق، أثبت قدرته على إقامة علاقة صحيحة مع الموسيقى الكلاسيكية، وأعطى الأعمال حقها لناحية التنفيذ الدقيق والمتقن، لكنه لم يتخطَّ قط، أو حتى ينافس، زملاءه المتخصصين في هذا المضمار. وهنا يدخل عنصر الأداء الكلاسيكي الذي يحتاج تفرغاً وتعمقاً بالموسيقى الكلاسيكية دون سواها.
ب. ص