محمود عبد الغنيوجد كتاب «في صحبة السلطان» طريقه إلى لغة الضاد أخيراً ( «دار جذور للنشر»، المغرب ـــــ ترجمة عبد الرحيم حزل)، وكان قد صدر للمرة الأولى باللغة الفرنسية عام 1905. بين صفحاته، نكتشف حقائق كثيرة عن السلطان المغربي مولاي عبد العزيز، أو عبد العزيز بن الحسن (سلطان المغرب بين 1894 و1908)، وعن المغرب قبيل فترة الاستعمار الفرنسي. يعدّ كتاب الصيدلي والمصور الفوتوغرافي الفرنسي غابرييل فير (1871 ـــــ 1936) من أهم الوثائق التي تناولت تاريخ المغرب قبل الاستعمار، ودرست لاحقاً كوثائق تمهيديّة للاستعمار. لكن من هو غابرييل فير، الذي دخل البلاط المغربي وحظي بصداقة السلطان؟ إنّه من مدينة ليون الفرنسية، درس الصيدلة، وانتقل إلى التصوير الفوتوغرافي والسينمائي، في وقت كان فيه التصوير اختراعاً جديداً. التحق مير باستوديو الأخوَين لوميير، مخترعَي السينما (1895)، فكلّفه الرجلان القيام برحلة حول العالم للتعريف بالفن السابع، بدأها عام 1896. من المكسيك، إلى كوبا، وكولومبيا، وفنزويلا، وكندا وصولاً إلى اليابان، والصين، والهند الصينية، عرض المصور الشاب العديد من الأفلام وصوّر أفلاماً، قبل أن يتلقّى عام 1901 رسالة من الجالية الفرنسية في طنجة المغربيّة. كانت الرسالة دعوةً إلى زيارة المغرب، والعمل مصوّراً لدى السلطان، يتولى في الوقت عينه تعليمه تقنيات فنّ التصوير الفوتوغرافي. حثّته الرسالة على الإسراع قبل أن يجلب القائد الإنكليزي ماك لين مصوّراً من أبناء جلدته، بهدف الإكثار من الرعايا الإنكليز في البلاط المغربي. سارع السينمائي إلى مراكش، واستهلّ مهمته بإنشاء مختبره الفني داخل البلاط السلطاني، وراح يعلّم مولاي عبد العزيز أصول هذا التصوير، فصار ذلك الشغل الشاغل للبلاط بأكمله، وأكثر الهوايات إمتاعاً بالنسبة إلى السلطان الشاب.
وخلال إقامته في البلاط السلطاني، تولّى فير مهمّات إضافيّة، مثل تمديد الكهرباء إلى القصر، وإدخال الاختراعات الحديثة كالهاتف والدراجات والسيارات، فلقّب بـ«مهندس السلطان». في موازاة ذلك، صار الرجل في فترة وجيزة، من أقرب أصفياء السلطان، إذ كان يقاسمه متعه، ويطلعه على مشاغله وهمومه. سجّل مير تفاصيل الحياة اليومية للسلطان وحاشيته ووزرائه وأصدقائه، فخرج بالكتاب الذي نقرأه بالعربيّة بين أيدينا، وفيه خلاصة لكل ما رآه الفنان الفرنسي في المغرب وتعلّمه في بلاطه.

سجّل تفاصيل الحياة اليومية للسلطان وحاشيته ووزرائه

في هذا السياق، يسلّط المؤلف الضوء على العديد من الشخصيات المؤثّرة في عهد عبد العزيز بن الحسن، على رأسها وزير الحربية المتسلّط المهدي المنبهي، الذي كان يتمتع بسطوة مطلقة عليه. ذلك «الرجل الرهيب أبقى على السلطان الشاب في جهل تامّ بكل ما يتعلّق بالسياسة، أو بإدارة إمبراطوريته، مما جعل مولاي عبد العزيز غيّر مهيّأ لممارسة أية سلطة مهما كانت». وتحالف المنبهي صاحب الثروة الكبيرة مع الداهية ماك لين، لكنّ الكتاب يصوّر لنا لحظات الصراع بينه وبين خصومه في البلاط، وكيف كان يقضي على زملائه بالدبلوماسية عند الإمكان، وبالعنف عند الضرورة. لكنّ حظوظ وزير الحربيّة انقلبت إثر عودته من مهمة رسمية، تمثلت في زيارة إدوارد السابع، بعد تتويجه ملكاً على إنكلترا. لدى عودته، وجد المؤامرات قد فعلت فعلها، وانقطع خيط المودة والثقة بينه وبين السلطان.
يرينا الكاتب أنّ ذلك السلطان كان لا يعلم إلا الشيء القليل عما يجري في البلاد. والدليل على ذلك جهله بثورة الروكي بوحمارة، الذي أربك الخزانة. وعندما كان السلطان يسأل عن حقيقة ما يقوم به الروكي، كانت الإجابة أنّ كلّ ما في الأمر تمرد محدود سيُقضى عليه بسرعة. لكنّ الأيام بيّنت لمولاي عبد العزيز أنّ «الروكي» ثائر خطير وقوي، بعدما أحرز هذا الأخير النصر تلو الآخر، ولم تعد الخزانة تجد المال لتمويل الجيوش وشراء الذخيرة.
تلك الأحداث، وهي كثيرة في مغرب ذلك الوقت، حوّلت الصبي الخالي البال، إلى سلطان يواجه جسام الأمور، وعلى رأسها قلاقل شملت معظم المدن والقرى المغربيّة، وحالت دون وصول البعثة العسكرية الفرنسية إلى السلطان. تلك البعثة، ومثيلاتها، كلّفت الحاكم مبالغ طائلة، دفعها طمعاً بإعادة النظام ونشر الهدوء. في النهاية، نقمَ عبد العزيز على فرنسا، كأنّه استشفّ نواياها الحقيقية من وجودها العسكري في المغرب. وفي حديث خاص بينه وبين غابرييل فير، أبدى السلطان استعداده للحرب، لكنّ صديقه نصحه بالعودة عن تلك الفكرة، وخصوصاً أنّه يفتقر إلى البنادق والمدافع والبارود والكرات المدفعية، والسفن الحربية والفرقاطات الفرنسية. وقال له إنّه ما إن يعلن الحرب حتى تأتي كل تلك الآلة مسرعةً لاحتلال المراسي، وإحكام قبضتها على السواحل. فارتبك السلطان وقال: «ربما. كل ما تقوله ممكن. لكننا سنقتل منهم رجالاً كثيرين، ونكلفهم أموالاً طائلة». لكنّه عاد عن شجاعته تلك، وأدرك بواطن الأمور، فاستسلم وقال: «ها هي ذي السواحل افعلوا فيها ما تشاؤون، لكن دعوا عنكم المدينة المقدسة... لا تمسّوا فاس». لكنّ فرنسا لم تسمع طلب مولاي عبد العزيز، وبدأت تلتهم كل الأراضي. أما غابرييل فير، فقد بقي في المغرب وتوفّي في الدار البيضاء عام 1936.