خليل صويلح يمزج عبد الستار ناصر في كتابه «الهجرة نحو الأمس» (دار فضاءات ـــــ عمّان) بين سيرة النص المكتوب وحياة المؤلف، خلال تجربة شخصية تمتد أربعة عقود، فيتواشج زمن الكتابة مع ذكريات شخصية وأوجاع وموت ومسرّات وأسرار. هكذا يفتح العدسة على مرحلة مبكرة من حياته في حي «الطاطران» البغدادي الأقرب إلى «الخرابة». هناك يتعرّف فتى التاسعة على أحسن معلم. إنّه أرسين لوبين، فيحاول تقليده من دون نجاح. لا يتردد القصّاص والروائي العراقي في هتك أسرار يصعُب على المبدع العربي مقاربتها بسهولة، كأنه محمد شكري آخر في فضح المحرمات. يقول «بداياتي مدهشة بأوجاعها وإفلاسها وزينة أخطائها، فقد ولدت في محلة ازدحمت بالزنا السرّي». علاقة مع مومس غيّرت مجرى حياته ورمته إلى عالم الكتابة. في الـ15من عمره، نشر قصته الأولى في جريدة «الأنباء الجديدة». بعد صدور مجموعته القصصية الأولى «الرغبة في وقت متأخر» (1969)، كتب عنه غسان كنفاني «الكاتب الذي يجوس بفانوسه عالم الطابق السفلي من المدينة»، وهذا ما جعله يُصاب بحال من الرعب، حين عدّه كنفاني واحداً من أحسن من كتب القصة القصيرة. ويعترف ناصر بأنّه بعد هذه المقالة، تعرّض لحملة شتائم ما زالت مستمرة إلى اليوم.يحكي صاحب «صندوق الأخطاء» عن حياته كمقامر محترف في نوادي القمار وخسائره المتلاحقة، «لكنّ روح المخاطرة لم تمنعني من الذهاب صوب مستوطنة الخسائر الممتعة»، ويستدرك «أنا مقامر في الكتابة أكثر مما أنا مقامر في صالات الروليت». ويستعيد ناصر فترة الخوف والهلع في عراق الديكتاتورية، وكيف كان يخفي كتاباته على أمل أنها ستبصر النور ذات يوم، فيوثّق يومياته في قبو للاستخبارات العراقية طيلة سنة كاملة، من دون أن يختلط بأحد، «تمكنت من كتابة قصة قصيرة عن ظهر قلب، أكتب جملة ثم أحفظها، وبعدها سطراً ثم أحفظه، وحين خرجت من قبو الاستخبارات كان أول شيء أفعله هو أنني كتبتها على الورق خوفاً من نسيان بعض مفرداتها». في فترة الحصار الأميركي للعراق، تخصّص بعض كتّاب الأعمدة في الصحف العراقية في كتابة المدائح للقائد الرمز، فكتب مقالة «جمعية الشحاذين» في صحيفة «بابل» أثارت الكتبة المتسوّلين بكمّ كبير من الشتائم والافتراءات وتشويه السمعة.
وفي عمّان التي استقر فيها صاحب «سيدّنا الخليفة» منذ عقد ونصف، تراكمت الكتب في مكتبته مجدداً، وها هو يراجع الإهداءات التي كتبها أصحاب هذه الكتب إليه، بعدما توزّعتهم المنافي والمقابر، وسيتوقف عند بعض هذه الإهداءات، منها مثلاً ما كتبه علي جعفر العلّاق «إلى الصديق المحاط بالزوابع دائماً». هذه الكتابات المعبّرة، كانت بمثابة إنقاذ من الوحشة والعزلة والانتحار. يعترف ناصر بأنّه كاتب فاشل أمام إبداعات الآخرين، لكنّه يعزّي نفسه بخوض تجارب جديدة حتى تجاوزت كتبه 40 عنواناً في القصة والرواية والنقد، من دون أن يجد الخلاص. تجربته الجديدة هذه، لعلها محاولة لإطاحة التجنيس، والتجوال بين حقول سردية متباينة، على تخوم السيرة الأدبية لكشف أسرار الكتابة نفسها ومكابدات الكاتب في إنجاز نصّه المشتهى، ومراودة المخبوء والمؤجل «أيام اعتقالي تحتاج إلى ثلاث روايات على أقل تقدير». في المقابل، يعترف «إذا ما هاجرت نحو الأمس، سأشطب نصف ما كتبت، دونما ندم».