الرّوائي المغربي يستعيد جرح الهجرة المفتوح

صاحب «ليلة القدر» يطرح مجدداً سؤال الانتماء، ويعود إلى أحد مواضيعه الأثيرة: الهجرة المغاربيّة إلى فرنسا. في طريقه «إلى البلد»، يشهد محمّد على انحسار القيم القديمة، ويحكي نهاية جيل ومرحلة، ويقيس المسافة بين أرض الجذور والمكان الجديد الذي لم يصبح وطناً فعلياً له ولأبنائه

ياسين تملالي
في آخر رواياته «إلى البلد» (Au pays، «دار غاليمار»)، يواصل الطاهر بن جلون، الكاتب المغربي باللغة الفرنسية، تساؤله الإنساني عن وضع المهاجرين المغاربة في أوروبا. تساؤل بدأ بطرحه في عام 1975 برسالة جامعية عن «البؤس العاطفي والجنسي للعمال الشمال ـــــ أفريقيين في فرنسا»، وتواصَل لديه في قصة شعرية هي «السجن الانفرادي» (1976)، ونص هو بين المقال والريبورتاج عنوانُه «أقصى درجات الوحدة» ( 1977).
«في البلد»، وفق ما صرّح بن جلون لمجلة Le Magazine littéraire ، امتداد لـ«السجن الانفرادي». بطلها مهاجر مغربي هو صدى لشخصية تلك القصة، ومصيره بعد أن «ينهي دورة حياته التي بدأت منذ 32 عاماً». هذا الزمن الطويل هو «الرابط» بين القصّتين، وكذلك «ثباتُ نواقص الوضع البشري»، يقول الكاتب في حديثه إلى المجلة الأدبية الفرنسية.
محمد بطل «إلى البلد»، مهاجر مغربي يقترب موعد إحالته على التقاعد ولا رغبة له في ذلك، فحياته ضبطت خلال أكثر من ثلاثين سنة على إيقاع لا يتغيّر: الذهاب صباحاً إلى العمل والعودة مساءً إلى البيت. يبدو التقاعد لمحمد «اختراعاً شيطانيّاً» و«بداية موت» لأنّه سيجبره على «تعلم الملل»: كيف سيقضي هذا الوقت، وهو الذي ليس له من وسط اجتماعي غير عائلته؟ لن يتردد على الحانات والمقاهي، فهو مسلم تقيّ لا يشرب الكحول، وقرويّ عتيق يعرف قيمة الوقت، ولن يستغل حريته في البحث عن امرأة أخرى يتزوجها كما فعل بعض أقرانه المتقاعدين.
يسيطر شبح التقاعد على محمد طيلة الشهور التي تسبق انتهاء خدمته في مصنع «رينو» للسيارات، وتراوده تساؤلات ما كانت تشغله قبلاً: عن البنوّة والأبوّة وهو يرى ابنته تتزوج مسيحياً بذريعة «حرية شخصية» لا يفهمها، والفرق بين فرنسا والبلد الأم، بين القرية الصغيرة الأخوية وهذا العالم البارد المعدني. وعندما يأتي «أول يوم تقاعد»، تُزلزل حياته فيقرر الهرب من فراغها إلى مسقط رأسه، في جنوب المغرب. هناك، يشرع في بناء بيت كبير لكل من أبنائه حجرته فيه. وبعد انتهاء الأشغال، يدعوهم لزيارته وينتظرهم، لكن أحداً لا يأتي.
ليس محمد بورتريهاً للمهاجرين الشمال ـــــ أفريقيين عامة، بل لجيل معين منهم. يعيد بن جلون رسم تلك «الوجوه» التي نقابلها في المترو والقطارات وتحمل هم الزمان وفقدان الأوهام، وجوه حزينة غير مفهومة، «حاجتها إلى التعاطف أكبر من أن يمكن إشباعها»، كما قال لمجلة «الماغازين ليتيرير». جذور هؤلاء المهاجرين الذين أشرفوا على الشيخوخة ضاربةٌ في عمق أرض ما فارقوها لولا العوز. أرض لم يفقدوا يوماً إحساسهم بالانتماء إليها والموت فيها. لهذا، يرون فشلهم في غرس حبها في نفوس أولادهم كارثة ما بعدها كارثة. أما وصف أبناء الجيل التالي من مغاربة المهجر، فليس أساسياً في الرواية. لكنّ الكاتب لم يهمله، بل استعرض ـــــ عبر صور أبناء محمد ـــــ علاقتهم بفرنسا التي لا تقل تعقيداً عن علاقة آبائهم بها. هي أكثر تشنجاً لأنّهم، إن كانوا في نظر القانون فرنسيين كاملي الحقوق، فهم نصف مواطنين بحكم الواقع.
فضلاً عن كونها «قصة هزيمة»، ووصف لـ«جرح الهجرة المفتوح»، يمكن اعتبار الرواية تساؤلاً عن الأبوّة والبنوّة خصّص لهما بن جلون نصّين كاملين هما «يوم صامت في طنجة» (1997) عن علاقة الابن بأبيه، و«عن أمي» (2008) عن علاقته بأمه، وما يحكم العلاقتين في المجتمع المغربي التقليدي من قوانين لم تهترئ مع الزمن. هذه القوانين «انتهت صلاحيتها» لأبناء محمد: لا تبجيل لأبيهم ولا قدسية، بل حبّ إنساني يتوقف عند حدود حريتهم.

الرواية امتداد لكتاباته عن العنصرية في فرنسا بلد الغيتوهات المنيعة
«دور الروائي أن يمعن النظر في المشهد البشري ويعبر عن جراحه والأشياء المنسية فيه» يقول بن جلون. لذا، ورغم أنّ الهجرة هي «موضوعها»، ليست «إلى البلد» رواية سياسية. الهدف منها هو إيصال بعض الحقائق الإنسانية عن المهاجرين حسب بن جلون. ورغم أنّها غير سياسية، إلا أنها في مسار صاحب «غونكور» (1987) تحتلّ مكانها كامتداد لكتاباته عن العنصرية التي تحشر المهاجرين غير الأوروبيين في فرنسا وراء غيتوهات منيعة شبه أبدية. وأهم هذه الكتابات «الضيافة الفرنسية» (1984) و«شرح العنصرية لابنتي» (1998) الذي بيع منه أكثر من 400 ألف نسخة بلغات عدة، ما جعل بن جلون أكثر الكتاب الفرنكوفونيين مقروئية في العالم. ويمكن أن ندرج أيضاً «شرح الإسلام للأطفال» (2002) الذي جاء كردة فعل على الخلط بين الديانة الإسلامية والإرهاب بعد تفجيرات 11 أيلول (سبتمبر).
ويبدو المزج بين الكتابة الأدبية والسياسية ملازماً لمسار بن جلون، مذ نشر عام 1968 ـــــ في مجلة «أنفاس» (كان يشرف عليها الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي) ـــــ أولى قصائده، «فجر الإسمنت» التي كتبها، حسب قوله، وهو في المعتقل متهم بتدبير تظاهرات 1965 الطلابية. منذ نشر هذا النص، لم يملّ التجوال بين الأدب بمختلف أجناسه ولم يمتنع عن التطرق إلى مسائل سياسية مباشرة، كما فعل في رواية «تلك العتمة الباهرة» (2000) التي تستوحي السيرة الحقيقية لسجين سياسي مغربي في تزمامارت، أفظع معتقلات الملك الحسن الثاني على الإطلاق.