تجارب مختلفة للانسلاخ عن الوطن، احتضنتها العاصمة الألمانيّة في «مهرجان أيام الرافدين»، وقدّمت نموذجاً مصغراً عن الحركة التشكيلية العراقية في المنفى
حسين السكاف
ستّ سنوات مضت على سقوط النظام الديكتاتوري في العراق، إلا أنّ المنفى العراقي ما زال «مزدهراً»، وزاخراً بإنتاجه الفني. هذه الحقيقة لم يكن ليتصوّرها أحد من أبناء المنفى العراقي «البررة» الذين ظلوا أوفياء لمنفاهم، رغم زوال الكابوس الذي اقتلعهم من أوطانهم لتحلّ مكانه كوابيس من نوع آخر... بعض هؤلاء الفنانين الذين ينتمون إلى الشتات العراقي التقوا في برلين، في معرض جماعي ضم نخبة من التشكيليين الذي عاشوا لأكثر من ربع قرن بعيداً عن بلدهم.
المعرض الذي يشير بوضوح إلى مدرسة تشكيلية تأسست في المنفى، وستذكرها كتب تاريخ الفنّ العراقي، شارك فيه أكثر من 17 فناناً اجتمعوا في برلين ضمن تظاهرة إبداعيّة ثقافية أقيمت تحت خيمة «مهرجان أيام الرافدين الثقافية العراقية الخامس». أتى الفنّانون من دول أوروبية عدة عاشوا فيها منفاهم العراقي لأكثر من 30 عاماً... يا لهذا المنفى «الحميم» العامر الذي لا يريد مفارقة أبنائه الذين كبروا في كنفه حتى غزا الشيب رؤوسهم.
أكثر من 20 عملاً فنيّاً، مثّلت نموذجاً مصغراً لتطور الحركة التشكيلية العراقية في المنفى... تأثيرات واضحة لمدارس فنية عالمية، وأخرى جاءت متأثرة بعوالم كبار الفنانين العالميين من تولوز لوتريك وبيكاسو حتى جواد سليم ومدرسة بغداد... الفنانون المشاركون تخرّج أغلبهم من أكبر المعاهد والأكاديميات العالمية: روما، باريس، فلورنسا، أمستردام وغيرها، ومنهم مَن يعمل حالياً في التدريس في أهم الأكاديميات الفنية الأوروبية.
أظهر المعرض مسارات فنية عدّة تنتمي إلى مدارس مهمة، فقد توزعت الأساليب بين الانطباعية والتجريدية والتعبيرية، ولم يغفل المعرض فن الكاريكاتور، إذ قدم لنا لوحتين للفنان منصور البكري شاهدنا في أحدها بورتريه معبّراً للشاعر سعدي يوسف.
اقتصرت معظم المشاركات على عمل واحد لكلّ فنان. إبراهيم الجزائري المقيم في سويسرا، قدّم عملاً بعنوان «نحن... الآن» جاء تعبيريّاً يصوّر البشر وقد مُسخوا بفعل تبعات الحروب، لذا لا يمكن المشاهد العثور على أي مسحة إنسانية في ملامح شخصيّاته. تحتل اللوحة وجوه مشوهة خالية من الجمال، إلا تلك الطفلة أسفل التكوين التي بدت كأنّها في طريقها للمسخ. صحيح أنّها بارقة أمل لكنّها واهية وغير مفرحة على الإطلاق.

من تولوز لوتريك إلى جواد سليم ومدرسة بغداد
الفنان يونس العزاوي الذي حظي بأكبر مساحة من جدران القاعة، إذ قدّم عملاً (قياس مترين x مترين)، أظهر ـــــ إضافة إلى التقنية العالية وجمالية التكوين ـــــ مأساة إنسانية اتّخذت من ظاهرة «البارانويا» ثيمةً أساسيةً لها. عمل يصور وقوع المنفي العراقي تحت مرض الخوف والهذيانات التي لا تتصل بالواقع. تلك الثيمة صار يشتغل عليها يونس العزاوي منذ زمن وأدخلته «المعهد العالي لدراسة الفنون في برلين» مدرِّساً يحاضر في سيكولوجية اللوحة في فنّ الرسم...
أما إيمان علي خالد، المقيمة في أمستردام، فقد اشتركت بعملين أظهرا ارتباطها ببيئتها وعمق تمسكها بالموروثات التي تستمد منها مادتها الفنية. وهذه الميزة ملازمة لتجربة الفنّانة التي تحفل أعمالها بقصص الشرق وألوانه، ويغلب عليها طابع حياتي لا يخلو من المشاكسة. قصص الحب ونقوش أيدي الحرفيين التي غابت منذ زمن عن الصناديق والوسائد وحتى جدران البيوت الشعبية.
وخيّم طيف الفنان الراحل أحمد الجاسم (1952 ـــــ 1994) على المعرض الذي أعاد تقديم بعض أعماله. التشكيلي الذي رحل في منفاه في العاصمة الألمانية، اشتهر بأعمال تكتنز الكثير من الرموز والإيحاءات.
وكان افتتاح المعرض قد توج بمحاضرة مقتضبة ألقاها الفنان فيصل لعيبي عن حركة الفن التشكيلي العراقي في المنفى، ومراحل تطوره التي شهدت ارتقاءً نوعياً، وأبعاداً علمية، جعلت منه مادة خصبة أغرت العديد من النقاد والباحثين لتناولها، يقف على رأسها ما قدمه التشكيلي الرائد محمود صبري (1927) الذي كرمه «مهرجان أيام الرافدين» في دورته الحالية.