لو نظرنا إلى ثلاثية نجيب محفوظ، لرأينا أنها لا تختلف عن حارة الضبع»، هكذا صرّح مرةً المخرج بسام الملا. لكن ما هو حقاً سرّ «باب الحارة»؟
محمد خير
أمام نجاح «باب الحارة»، لا يسع المرء إلا اختيار أحد سؤالين: ما هو سر باب الحارة؟ أو هل هناك سرّ؟ تقول الحكمة «تكلّم حتى أراك»، وقد تكلّم كثيراً المخرج بسام الملا. وربما جعلتنا بعض كلماته نفهم أكثر. في معرض ردّه عمّن انتقدوا صورة المرأة في «باب الحارة»، قال الملا في حوار مع موقع «الجزيرة»: «لو نظرنا إلى ثلاثية نجيب محفوظ، لرأينا أنها لا تختلف عن حارة الضبع. الحي هناك أكثر صرامةً. وهناك، كانت الزوجة تقول لزوجها «سيدي»، والزوجة نفسها بحماية هذا الرجل». إنّ «مربط الفرس» هنا ليس تجرؤ الملا على هذه المقارنة، بل «الرؤية» التي تعبّر عنها تلك الكلمات. لو أن المخرج قرأ الثلاثية المحفوظية، أو حتى شاهدها سينمائياً عبر شرائط حسن الإمام، لأدرك أنّ عميد الرواية العربية قدّم «سي السيد» كشخصية متناقضة ومدانة. أما زوجته (كانت تقول لزوجها «يا سيدي» حسب الملا)، فقدم محفوظ صورتها المركبة المحبة لسيدها، لكنه حبّ القهر والجهل وقلة الحيلة. لقد أمضت أمينة عمرها تسكن إلى جوار جامع الحسين. مع ذلك، لم يتسنّ لها زيارته، ولم تخرج من بيت زوجها سوى بالتحايل، ودفعت ثمناً باهظاً لذلك، لأن الزوج ارتأى أنّ سنوات عشرتها وخدمتها أهون عنده من كسر كلمته المستبدة. حارة الثلاثية كانت متناقضة لأنها واقعية بقدر ما هي متخيلة، وهي إنسانية بقدر ما احتشدت بتضارب الإرادات. فماذا عن حارة الضبع؟ لنعد إلى عبارة أخرى من الحوار نفسه. يقول الملا عن النجاح الذي لقيه العمل عند الجمهور «عندما تعيده إلى التاريخ والقيم التاريخية والدينية، فهو متشوق لها، وعندما تقدم مثل هذه الأعمال المحافظة تزداد مساحة احترامك لدى الناس».
ربط المخرج بين التاريخ و«الأعمال المحافظة». هو ربط شديد الدلالة، لأنّه يعني أنه لا ينوي خوض جدل مع التاريخ، ولا حتى إعادة إنتاجه تسجيلياً، بل يذهب إلى المنطقة «المحافظة» الآمنة. ينتج الصورة التي «تتخيلها» وتتمناها الشرائح الأوسع من جمهور محافظ يزداد اتّجاهاً نحو اليمين. هو ينتج صورة لم تكن موجودة قط

المرأة في تلك الحارة التاريخية ليست امرأة ثلاثية محفوظ

لمجتمع رجعيّ وسعيد في آن واحد. المرأة في تلك الحارة التاريخية ليست امرأة ثلاثية محفوظ التي تعاني الظلم دون أن تدركه، بل هي امرأة حارة الضبع التي لا يبدو القهر جزءاً من عالمها، لأن رجالها ليسوا من عيّنة «سي السيد» المتناقض ثم الواقعي. بل هم رجال متخيلون من نوعية أبو عصام وأبو شهاب، اللذين لم يؤثر خروجهما في المسلسل، لأنهما ـــــ رغم براعتهما ـــــ لم يكونا المسألة، بل ما مثّلاه من طبعة أخلاقية واحدة مكررة بعدد رجالات الحارة. ولنلاحظ ـــــ كعودة أخيرة إلى ثلاثية محفوظ ـــــ أنّ سي السيد كان خائباً لأن أياً من أبنائه لم يكن نسخة عنه. أما رجال حارة الضبع غير الواقعيين، فيتم بسهولة استنساخهم أشخاصاً يجمعون بين الشهامة والقوة والأمانة، ويبدون الحنان والرحمة مع نسائهم. إنهم نماذج متعددة ومتشابهة من النموذج الأكثر شعبية في الثقافة العربية: المستبد العادل، فكيف لا ينجح المسلسل بهم؟
المرأة هنا إذاً ليست سوى كيان مكرس للنزاعات العائلية. ذلك هو عالمها الوحيد، ما دام رجلها يتكفّل بالنفقات والحنان والعدالة. لا تناقض ولا صراع يدفعها إلى التمرد، ولا سيّما أنّ «القيم التاريخية والدينية» التي تحدّث عنها المخرج، تمثّل خلفية للجميع، ما يمنع ظهور نماذج مختلفة أو حتى شاذة عن الجموع.
اللهم إلا استثناءات هي نمطية بدورها، كشخصية خائن هنا أو جبان هناك. هي صورة بديهية عندما ينتقل صانع العمل من المهتم بتقاليد تاريخية، إلى المعجب بها، وخصوصاً عندما يشاركه الجمهور إعجابه، فيتواطأ المبدع والمتلقي على الاكتفاء بمساحة المتفق عليه، وملء تلك المساحة الآمنة بالحكايات المشوقة التي تروى عبر ممثلين مميزين. حتى تلك الحكايات كادت تفقد جاذبيتها، قبل أن يعود الجزء الرابع بخطوة ذكية، هي الإسقاط على حصار الفلسطينيّين في غزة، عبر حصار الاحتلال لأهل الحارة. هو تناول يُحسب لأهل المسلسل، حتى وإن كان استمراراً في استهلال مساحة المتفق عليه. لقد تحركت المرأة أخيراً في الجزء الرابع وزادت مساحة دورها، لكنه دور ضمن مقاومة الاحتلال بعد خروج الرجال. إنه الدور الثاني وهو دور وطني لا مدني. إنها المرأة التي يطلب المجتمع العربي تضحياتها بلا حساب، حتى يعود رجلها فيعيدها إلى البيت!