«الفتن البغدادية» الذي صدرت طبعته الثانية في دمشق، شهادة تُمسك بلحظة معقّدة في تاريخ العراق المعاصر. لنقرأ تأمّلات باحث وشاعر عراقي، في الدين والسياسة والمجتمع و«طائفيةالثقافة»... و«فقهاء المارينز»
نوال العلي
في منتصف التسعينيات من القرن المنصرم، تراكمت نساء شاحبات على أرصفة عمّان. كنّ يجلسن بعباءات مهترئة متجاورات متمرسات في بيع سجائر مهرّبة ومسابح. وكانت ثمة لعبة بحجم الإبهام، لها زنبرك، فإذا شددته، تلف حول نفسها حتى تسقط من التعب. تعود هذه الصور لدى قراءة كتاب «الفتن البغدادية» (دار التكوين ــــ الطبعة الثانية) للشاعر والباحث العراقي محمد مظلوم، لا سيما مقالتيه «الماجدات والخائبات في مواسم الحروب» و«العار المشترك مغسولاً بدم المرأة». ولا يسعك وأنت تقرأ هاتين المقالتين إلا استعادة نساء الرصيف. مظلوم يتعقّب فيهما صورة المرأة العراقية التي تبدو كأنّها لعبة تدور حول نفسها، في إطارين لا يخرج أيّ منهما عن العنف. ويُظهر كل منهما كيف يستفيد النظام السياسي والطائفي من تقاليد تعسفية مثل قتل العار. أو كأن يبتكر صورةً جديدةً تناسبه مثلما فعل صدام حسين حين وصف النساء بـ«الماجدات». والمجد صفة تتعلق بالرجال في ثقافتنا العربية لا بالنساء. صفة نفهمها حين نعرف مَن هنّ ماجدات صدام، صاحب المصطلحات التي «تصلح مادةً أوليةً غنيةً لتقصي مراحل تهشيم البنية الأساسية للمجتمع العراقي».
وإن كان الباحث قد استعرض في هذا المقال كيف تمّ تسييس الكثيرات واضطهاد أخريات سياسياً، فقد قدم في المقال الآخر صورةً موحشةً استجلبها من طفولته «في الطريق بين مدينة الثورة (الصدر حالياً) ومنطقة الشماعية. صادفنا لثلاث مرات في سنة واحدة أسراباً هائلة من الذباب تحوم حول منخفض جرت تسميته وادي الزانيات، حيث أصبح هذا المنخفض المكان النموذجي لإلقاء جثث القتيلات الملفوفة ببطانيات رثة، وعلى بعد أمتار ثمة فردة من حذاء نسائي، وكف مقطوعة من الرسغ تماماً، وثمة بريق خافت لخاتم يلمع بين بقع الدم المتجمد». سيبدأ مظلوم بهذه الذكرى ليسير بنا إلى «الحملة الإيمانية» التي قُطعت فيها رؤوس العاهرات على يد النظام السابق. إنها حالة من غسل شرف الوطن أيضاً تُكرِّس فيها الأنظمة شريعة الغاب المشابهة لشريعتها و«تدحض حتى ثوابت الأحكام الشرعية».
على العموم، ليست المرأة العراقية محور الكتاب الثالث في سلسلة بدأها مظلوم بـ«ربيع الجنرالات ونيروز الحلاجين» (نينوى ــــ 2003) و«عراق الكولنيالية الجديدة» (رياض الريّس ــــ 2005). هذه الكتب الثلاثة شهادة الشاعر الشخصيّة «للإمساك بلحظة تاريخية غاية في التعقيد والتداخل في تاريخ العراق المعاصر».
جاء «الفتن البغدادية» في أربعة فصول بدأت بـ«قفص الدكتاتور والذاكرة المحتلّة». وفيه قراءة لليوم الثامن والعشرين من حزيران (يونيو)، لحظة تسلّم غازي الياور وإياد علاّوي ورقة السيادة من بول بريمر، ليعود مظلوم بعد ذلك إلى قراءة سقوط صدام وصورة البطل. ويخوض في التغيرات التي حدثت ما بعد الاحتلال مثل دخول الفضائيات والهواتف الخلوية. ويتوصل إلى قراءات تجلو صورة جمهورية الطوائف. وتفصح عن تداخل التجاري مع السياسي مع الثقافي في الحالة العراقية.
مثال على ذلك ما جاء في «فيدرالية الهواتف المحمولة». إذ يبين مظلوم كيف «تولت ثلاث شركات تسويق خدمة الهواتف المحمولة، وفق جغرافيا تعتمد التوزيع الطائفي والعرقي والمناطقي، لتعكس صورة المستقبل السياسي والاجتماعي والاقتصادي». أليس غريباً أن تتهافت الشركات على إنشاء هذه الخدمة في بلاد بلا ماء ولا كهرباء؟

ثلاث شركات خلوية اعتمدت التوزيع الطائفي والعرقي

ويناقش محمد مظلوم في فصل «معارك بين الأضرحة» سؤالاً في غاية الالتباس «هل هناك حرب أهليّة في العراق أم لا؟» وينطلق من تساؤلات أخرى أكثر تعقيداً عن أسباب الأزمة العراقية: هل هي الاحتلال أم إرث الدكتاتورية أم الجذور الطائفية؟
وهذه هي حال الباحث في فصول الكتاب الأخرى «تحت قبعة العم سام» و«الفتن تستيقظ في المنفى» الذي وضع فيه مظلوم ردوداً مختلفة نشرت له سابقاً على من هاجم أدباء المنفى ومثقفيه ممن لم يعودوا إلى العراق بعد الاحتلال، متناولاً علاقة المثقف بالسلطة في بلاد ما بين السيفين على حد تعبير الشاعر سعدي يوسف.
وفي خاتمة «فتن بغدادية»، يلحق مظلوم النص الأصلي بفيلم وثائقي ــــ كتبه لقناة «الجزيرة» ــــ عن تاريخ العنف والإعدامات السياسية في العراق بعنوان «جلادون وضحايا» فيستعيد لحظات وأسماء قتل اللاحقون فيها السابقين.
في الكتاب الممهور بعنوان فرعي «فقهاء المارينز وأهل الشقاق»، تظهر البطانة الثقافية المتينة للأفكار، والرؤية السياسية الناقدة والملمّة بمعلومات وأحداث متلاحقة تتعب أحياناً لاحتشادها. يستخدم صاحبها لغة تتعدد أشكالها بين سرد ذكريات شخصية وتحليل سياسي، فلا يمل القارئ من متابعة مقال طويل ومعقّد ومكتنز بالتفاصيل القاسية والمرهقة أيضاً. يعد هذا العمل شهادة حقيقية عن «طائفية الثقافة» الآن وعن مثقفي السلطة و«فقهاء المارينز» المروجين للاحتلال الأميركي. ويرصد وسط هذه المعمعة «التنشئة الجديدة للفتنة» بصفتها نتاجاً للواقع السابق والحالي وأسباباً للاحق.
يضيف الشاعر هنا إلى رصيده كتاباً جديداً في الأدب السياسي، يسعى إلى «نقد الثقافة السياسية التي أمسكت بالماضي فضيعته، وتمسك اليوم بالواقع فتعيد تبديده».