القدس المحتلة ـــ نجوان درويش
«غيابياً» معرض طارق الغُصين (1962) الذي قدمه في «غاليري الخط الثالث» في دبي، انتقل أخيراً إلى القدس حيث يُعرض في «مؤسسة المعمل للفن المعاصر» من دون حضور صاحبه. وهو شيء «معهود» لفلسطيني (ولد في الكويت) لا يحق له زيارة بلده المحتل، ما يعطي دلالة أخرى «غيابية» للمعرض. تسع صور مختارة من أربع سلاسل من الصور الفوتوغرافية، هي ما يُعرض هنا، بينها صورة الغصين اللافتة لملثم ينظر إلى فلسطين عبر البحر الميت مديراً ظهره للمتلقي. ولعل الصورة (2002) التي تندرج ضمن سلسلة «بورتريه ذاتي»، هي من أبرز أعمال الغُصين وأكثرها إشكالية. إنّها صورة مركبة على أكثر من مستوى. الملثم بالكوفية الذي ينظر إلى فلسطين عبر البحر الميت من الجهة الأردنية، لا يفصح عن ترميز واضح، ووقفته مفتوحة على التأويلات السياسية والوجودية أيضاً. وإن كانت الكوفية رمزاً غير محايد، فإن توظيف الفنان لرمزيتها، يُخرجها من سياقاتها الدارجة. لا نستطيع أن نعرف دوافع الملثم أو أفكاره: هل هي وقفة انتظار أم يأس أم هزيمة؟
وما يزيد من الإرباك الذي يشعرنا به العمل هو تناصه مع لوحة «المسافر في الضباب» (1818) للألماني الرومانسي كاسبار ديفيد فردريش (1774 ــــ 1840). وهي بدورها لوحة تخلق مشاعر متضاربة. الأرجح أنّها أيضاً بورتريه ذاتي للفنان نفسه. شاب يدير ظهره للمتلقي، ويقف على صخرة وأمامه بحر من الضباب... وإن كانت لغة الجسد للواقف في لوحة فردريش تنم عن كبرياء كالذي نراه في أعمال الرومانسيين، وإحساس بالإقدام في مواجهة المصير، تعززها وضعية قدمه اليسرى وإمساكه عصا المشي المتأنقة بيده اليمنى.
فيما لغة الجسد في صورة طارق الغُصين تعطي تعبيراً مختلفاً فيه قدر من اللامبالاة، وتحيل ــــ من حيث لغة الجسد ــــ إلى بورتريه آخر لفنان واقعي كان قريباً من الانطباعيين، هو الفرنسي غوستاف كايبوت (1848 ــــ 1890). في لوحته «شاب على نافذته» (1875)، يعطي الشاب الناظر من النافذة الكبيرة الفارهة ظهره للمتلقي، بينما ينظر ــــ بضجر ربما ــــ إلى مشهد مديني، حيث العمارة الباريسية والحياة المدينية الرخية المنسابة. ونحن إذ نعود فجأة إلى صورة الغصين، فإن المدينة (الاستقرار في العلاقة مع المكان) تختفي ليحل مكانها البحر الميت. ولا يفوتنا أن الأخير أحد رموز الاقتلاع والخراب القديمة (أسطورة سدوم وعامورة، وتحوّل من ينظر إلى الوراء إلى عمود من الملح).
وقفة مفتوحة على التأويلات السياسية والوجودية أيضاً
ليس هذا فقط ما يجمع الغصين بالرسامين. لعلها منظومة الفن الغربي التي يبدو عمل الثلاثة من ضمنها... في صور السلسلة الرابعة (د)، نجد تسجيلاً لغياب المشهد الطبيعي (landscape بالمفهوم الغربي)، حيث أكوام رملية وترابية موضوعة لأغراض البناء، تشير إلى غياب «مشهد طبيعي». عالم فردي تتحرك عبره شخصية غير معروفة، تستدعي صورة جماعية غائبة أو لعله مجرد غياب شخصي يتخفّى جيداً خلف الاستعارات.
حتّى 24 أيلول (سبتمبر) الحالي ــــ «مؤسسة المعمل للفن المعاصر» (القدس القديمة).
www.almamalfoundation.org
منذر جوابرة: حجر 2009
ملثّم طارق الغُصين، يظهر لدى فنّان آخر، من الجيل الجديد داخل فلسطين، هو منذر جوابرة (1976) الذي يخوض مساءلة مختلفة لـ «الملثّم». في عرضه الأدائي «حجر 2009»، يتجوّل الفنان في رام الله ومعه حجارة، يقدمها للمارة ويسألهم ماذا سيصنعون بالحجر. وهنا تتفاوت الإجابات مبرزة «التحول» الذي طرأ على رمزية الحجر وبالتالي المجتمع الفلسطيني، مقارنة بزمن انتفاضة 1987 حين كان الملثم مقاوماً يمثّل مجتمعه. وهو الأمر الذي غيبته «اتفاقية أوسلو» 1993 وإنشاء «سلطة وطنية» بوجود الاحتلال، وكل ما أعقب ذلك من انحدار. مساءلات جارحة يقدمها جوابرة في شارع «ركب» لجموع مستغربة أو غير مكترثة. ثم يبتعد وحيداً من دون أن يسقط لثامه