في معرضها الجديد، تخوض التشكيليّة اللبنانيّة لعبة صعبة وممتعة مع اللون. تجنح لوحتها إلى تفكيك المعنى وتجريده، وتترك طبقات طلاء سميكة بينها وبين الواقع، كأنّها تلتقط أضواء المدينة من خلف زجاج مبلل
سناء الخوري
أكثر من ألف لون وضوء وفراشة، حبستها ليلى بيضون شلبي داخل 16 لوحة. التشكيليّة اللبنانيّة المقيمة في فرنسا، تأخذ الشغل على اللون إلى حدوده القصوى، في معرضها Patterns and Light (أنماط وضوء) الذي يستضيفه حالياً فضاء نائلة كتّانة ـ كونيغ. ضربات ريشة صغيرة، تفكك الألوان وتغربلها، من دون أن تفقدها تناسقها. ترسم نقطاً أو فواصل، هي قطع من فسيفساء تجريديّة، تشبه أضواء المدينة وأنت تراها من خلف زجاج مبلل. تتخذ الفواصل اللونيّة الصغيرة المتقنة، شكل كتلة متفجرة أحياناً، أو تأتي خطوطاً متعرجة على مساحات لونيّة موحدة النمط أحياناً أخرى. هكذا، تأخذ الأعمال المرسومة بمواد مختلفة على كانفاس، صبغةً تزيينيّة واضحة. إذ لا يمكن أن تتخيّل لوناً إلا وتجده في اللوحات: من الأحمر والبرتقالي والأخضر إلى الأزرق والأبيض والأسود...
انساقت التشكيليّة خلف تلك اللعبة اللونية الصعبة والممتعة، عبر اختيارها الفراشة موضوعاً لمعرضها. أتت أجنحتها مستترة تحت طبقات من الطلاء. تستلهم الفنّانة هنا آباء المدرسة «التعبيريْة التجريديّة» الأميركيّة من أمثال جاكسون بولوك (1912ـ 1956) وويلم دي كونينغ (1904ـ1997). البعد المسطح للوحة، والطلاق التام بين خطوط الريشة و حقيقة الصورة، كلّها ملامح نجدها في لوحات هذين المعلمين.

تستلهم آباء «التعبيريْة التجريديّة» الأميركيّة
في أعمال شلبي التي بدأت دراسة التشكيل تحت أثر تلك المدرسة منتصف الخمسينيات، تنفجر الألوان كمفرقعات في سماء صافية. تبحث عن الفراشة في تلك المساحة فتجدها بصعوبة. لقد فككت المفهوم، جرّدت شكل الجانح ووزعته كصورة شعريّة غامضة على القماش. إنّها خواطر الفنانة كما ألهمتها إياها الفراشة، لكنّ نقلها إلى القماش يتطلّب جهداً يتجاوز التسجيل الميكانيكي. المشروع يشبه خيانةً للبعد المرئي. إنّه تمزيق للمعنى لاختراقه نحو ما هو أبعد وأصفى.

حتّى 19 أيلول (سبتمبر) الحالي ـ فضاء نائلة كتّانة ــــ كونيغ (مركز جيفينور، بيروت) ـ للاستعلام: 01/738706


توأم الروح

كانت الفراشة دائماً رمزاً للتحوّل والقيامة والحريّة. تجتمع أساطير العالم على تقديس تلك الحشرة الصغيرة، ويعود أقدم رسم لها، إلى عام 6500 قبل المسيح وقد وجد في تركيا. مراحل حياة الشرنقة بدءاً من البيضة وصولاً إلى الأجنحة المتفلتة، تحولت قصصاً شعبيّة في الصين. عند اليونانيين مثلت الخلود، إذ استخدم أرسطو في كتابه «أجزاء الحيوان»، الكلمة نفسها Psyché كمرادف للفراشة والروح معاً. بعض قطع العملة الإغريقية طبعت عليها صور فراشات، وقدم الرومان فراشاتهم قرابين للإلهة مينرفا حامية روما. منذ القرون الوسطى مثّلت الفراشة عنصراً ثابتاً للوحات الطبيعة الميتة في أوروبا، وعنصراً ثابتاً أيضاً في الفنون اليابانيّة. هناك، تمثل الفراشة رمزاً للأنوثة والمرأة، أو روحاً مهاجرة. أمّا في المكسيك فكانت الفراشة رمزاً لآلهة الفنّ والحياة حيناً، وإلهة الموت والحرب أحياناً أخرى.


الألوان لغتها

يد ليلى بيضون شلبي متآلفة مع الريشة واللون. بدأت دراسة الفن التشكيلي عام 1955، في «كليّة بيروت للبنات» (كلية بيروت الجامعية لاحقاً، واليوم الجامعة اللبنانية الأميركية). وبعدما استقرّت في باريس (1985)، ارتادت محترفات فنّانين معروفين، وبدأت تشارك في معارض جماعيّة. ولم تقدّم معرضها الفردي الأول إلا في عام 1996، في العاصمة الفرنسيّة. وبات حضورها مترقّباً في معارض الفن المعاصر، من اسطنبول إلى طهران مروراً بمدن إيطالية وبريطانيّة عدّة، ومتاحف فرنسا والكويت، وغاليريهات لبنان... من يتتبع صيرورة معارضها الفرديّة، يلاحظ عملاً بدأ ينحو باتجاه التجريد، في خط تصاعدي. ويلفت لدى الفنّانة استبعادها كلّ التجليّات المباشرة للأزمة في أعمالها: فهي لا ترسم لا عنفاً ولا حروباً ولا مآسيَ. تقول إنّ الألوان لغتها، وعملها هو البحث عن التناغم المطلق بينها.