من مؤسسي المدرسة الإسبانية في مجال الكتابة لآلة البيانو، ورمز مطلق للموسيقى الكلاسيكيّة في إسبانيا. هذا العام، يحتفل العالم بمئويّة رحيل المؤلّف الذي ترك لبلاده تراثاً موسيقياً يوضع بموازاة الفلامنكو
بشير صفير
إذا استعرضنا نشاط الموسيقى الكلاسيكية في إسبانيا منذ أقدم العصور إلى يومنا هذا، يمكن حصر ما قدَّمه هذا البلد بأسماء قليلة وبفترتَين أساسيتَين. الأولى تعود إلى النصف الثاني من القرن السادس عشر وتُختَصَر باسم وحيد هو توماس لويس دي فيكتوريا (1535 ــــ 1608). أمّا الفترة الثانية، وهي الأغنى، فتمتد من النصف الثاني للقرن التاسع عشر حتّى النصف الأول من القرن العشرين وتتمثل في ثلاثة رموز كبار هم: إسحق آلبنيز، أنريكِه غرانادوس ومانويل دي فايّا.
هذه السنة، يحتفل العالم بالذكرى المئوية لرحيل آلبنيز إسحق آلبنيز (1860 ــــ 1909)، وهو كبير الثلاثي الذي يُعتبَر من مؤسسي المدرسة الإسبانية في مجال التأليف لآلة البيانو، إذ ترك إرثاً موسيقياً لبلده يضاف إلى الموسيقى الشعبية، أي الفلامنكو.
كوّن آلبنيز علاقة مع البيانو منذ نعومة أظافره، وأظهر موهبة استثنائية، جعلت منه الطفل المعجزة الذي ذكَّر بموزار الصغير. ما دفع أحد النقاد آنذاك إلى القول: «لقد عاد موزار إلى الأرض» (قولٌ أثبتت السنين أنه مبالغٌ فيه). تمكَّن آلبنيز من آلة البيانو سريعاً، ما سمح له بتقديم أوّل أمسية له في الرابعة من عمره، كما كتب أول مؤلفاته وهو في الثامنة. وعلى غرار موزار أيضاً، قام الموسيقي الإسباني برحلات عدة خارج بلاده، فسافر إلى الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية وبلدان أوروبية عدّة. هناك، قدّم حفلات والتقى رموز تلك الفترة، وأبرزهم المعلم الكبير فرانز ليسْت (1811 ــــ 1886) الذي أعجِب بالفتى وقدّم له بعض النصائح.

يحمل عمله الأشهر «إيبيريا»، حنينه إلى الأمكنة المطبوعة في ذاكرته

عام 1894 استقرّ المؤلف الإسباني الكبير مع زوجته في باريس، وبدأ بعد ذلك مسيرته الجديّة كمؤلف. من هنا، يبدو طبيعياً تأثره بالانطباعيين الفرنسيين (كلود دوبوسي وموريس رافيل)، فأتت أعماله خلاصة تجمع بين هذا التيار والتراث الأندلسي. كتب إسحق آلبنيز عدداً كبيراً من الأعمال، معظمها للبيانو المنفرد. له أعمال غنائية وأخرى أوركسترالية لم تعرف شهرة كبيرة، لكن العمل الذي يختصر مسيرة هذا المؤلِّف هو «إيبيريا». إنها مؤلَّفة ضخمة للبيانو، تتكوَّن من أربعة أقسام، وفي كلِّ قسم ثلاث مقطوعات. بدأ آلبنيز العمل عليها عام 1906 وهو بعيدٌ عن بلاده، فضمّنها حنينه إلى الحالات والأمكنة المطبوعة في ذاكرته، وجعلها عناوين فرعيّة لمقطوعات «إيبيريا». إضافة إلى هذه الخصائص، يعتبر العمل من أصعب الأعمال عند آلبنيز. إذ يحتاج إلى مهارات العالية من العازف، في التنفيذ والأداء على حدٍّ سواء. إذا كانت «إيبيريا» وصية آلبنيز الموسيقية، فمقطوعة «أستورياس» (من الـ«متتالية الإسبانية») هي الأكثر شعبية. يعرفها خاصة الملمّون بآلة الغيتار، علماً بأنها كُتِبَت للبيانو في الأصل. هذه الموهبة الموسيقية الواعدة انطفأت باكراً. إذ رحل آلبنيز عام 1909، تاركاً العديد من الأعمال القيمة، ما جعل إسبانيا تعتبره رمزاً مطلقاً لم يتخطّه أي من أبنائها حتى اليوم.


بأنامل لاروخا

في ريبرتوار الموسيقى الكلاسيكية (وخصوصاً الجرمانية) تتنافس أسماء كثيرة على مستوى الأداء. لذا يمكن أن نجد العديد من التسجيلات التاريخية لأكثر من عازف أو أوركسترا، فيصبح الخيار بين هذا التسجيل وذاك مسألة ذوق شخصي في معظم الأحيان. لكن متى أتى الحديث عن المدرسة الإسبانية، وتحديداً في مجال البيانو، يمكن حسم الموضوع سريعاً. اسم واحد يحتل رأس قائمة الأداء في ما يخص أعمال المؤلفين الإسبان، وتحديداً الثنائي غرانادوس وآلبنيز. إنها عازفة البيانو أليسيا دي لاروخا (1923) التي أدت واجباتها على أكمل وجه تجاه مواطنيها، من خلال إيصال أعمالهم إلى الجمهور بأفضل أداء ممكن. لا نتكلم هنا عن قدرات تقنية عالية فقط، بل عن تخصّص بهذا التيار وفهم عميق للروائع، ومقاربة متجذِّرة في البيئة التي احتضنت المؤلفين الإسبان وصهرت إبداعاتهم.