حسين بن حمزةأفكار ومذاقات وأطياف عن عوالم وقضايا مختلفة تتراءى لنا في «حياة على عجل» (دار الانتشار العربي) للشاعر سيف الرحبي. الشعر غائب هنا والمجال مفتوح لممارسة متفلتة من شروط الشعر الخانقة. يتخفف الشاعر من المتطلبات الصارمة للقصيدة، ممرِّغاً خياله وتأملاته في تضاريس وفضاءات تحتمل الاستطراد والثرثرة والتأويل البسيط والنثر العادي. مفردة «حياة» في العنوان تفتح التوقعات على أفق واسع من الأفكار المعيوشة والمتخيلة، بينما تتكفل صفة «على عجل» بتوضيح أن ما يتضمنه الكتاب مكتوب بسرعة أكبر مما تتطلبه الكتابة، وأنه حصيلة مناسبات متباعدة وخاضعة لمزاج شخصي. في صفحات حملت عنوان «الطريق إلى الربع الخالي»، يتصفح الرحبي فكرة المنفى التي تشظت وشظَّت معها فكرة الوطن والحنين. يلحّ الشاعر على فكرة الإقامة في النص و«بناء وطن موازٍ عبر الكتابة». وهي الأطروحة التي اقترحها أدورنو لحياة الكتّاب المنفيين، وباتت صالحة للتداول والاستعمال منذ ذلك الوقت. لا يحضر المنفى كمادة أساسية وشاملة للكتاب. لكن ثمة ترجمات وإحالات متكررة تحسّس القارئ أن المؤلف هو ابن الترحّل والسفر، وأن أغلب ثيمات كتابه متأتية من تأمل العالم «في أكثر من ركن مقهى ومدينة وقارعة طريق». العجالة التي يصف بها الرحبي موجودات كتابه هي، على الأرجح، عجالة المسافر. تزداد هذه الصفة قوة وإقناعاً حين نعرف أن الشاعر العُماني وزع حياته الشخصية على عواصم وأمكنة متفرقة. الترحُّل يصعِّب علينا ردّ

استعادة لذكرى غالب هلسا ورثاؤه لسركون بولص

تجربة الرحبي إلى هوية واحدة يمنحها مكان الولادة عادةً. جملة الشاعر، سواء في القصيدة أو في الكتابة عموماً، احتكّت بفضاءات متعددة، وتسربت إليها روائح ومذاقات مكتسبة من التجوال والقراءة واختبار الوجود الشخصي في مدن شتّى وفي صداقات وذكريات وكتب وأفلام ومسرحيات ومهرجانات كثيرة.
تحت ضوء السيرة المشتتة في أكثر من مكان وتجربة، يحصل الكتاب على أوراق اعتماده لدى القارئ، وتصبح مطالعته أكثر يُسراً وعفوية. صاحب «حوار الأمكنة والوجوه» يلوذ بقراءاته وأصدقائه وأفكاره، ويكاد الكتاب أن يكون سجلاً موثقاً لتأملات يومية حدثت في حياة يومية. في هذا السياق، نقرأ استعادته لذكرى الروائي غالب هلسا ورثاءه للشاعر سركون بولص (والراحلان نموذجان ساطعان للمنفى الأدبي بطبعته العربية)، ثم احتفاءه بمشروع «جهة الشعر» لقاسم حداد، وإشارته إلى الذكرى الخمسين لمجلة «شعر»، ومناقشته لوظيفة الشعر ودور الأدب واستعادته لروايات كـ«أنفس ميتة» لغوغول و«المسخ» لكافكا... إنها موضوعات ومناسبات تصبح دليلاً لنا إلى مخيلة الرحبي وأفكاره وحياته. الكلمات تصنع صداقةً بين المؤلف والقارئ. بل تصبح وسيلة للحوار مع قارئ محدد، كما هي الحال حين يوضح موفقاً عرضه في مقابلة عن الفرق بين بيروت والقاهرة، مبدّداً عتب أصدقائه المصريين عليه. التوضيح نفسه يزيح الستار عن جانب من حياة شخصية للرحبي في العاصمتين، ويصير مناسبة للحديث عن القاهرة كمكان «مارس سطوته» على الشاعر وشهد إحدى ولاداته الشعرية والثقافية. المدن، والأسماء، هي الهيولى غير المعلنة التي تجمع مواد الكتاب المختلفة. إنها دعوة للقارئ كي يتقاسم مع المؤلف أفكاره ومشاغله اليومية التي تحدث داخل حياة تُعاش على عجل.
حسين...