الجواب القاطع عن سؤال اللغة، نجده في الملحوظة التي كتبتها إستير كالفينو، زوجة الكاتب، مشيرةً صراحة إلى أنّ المحاضرات كتبت أصلاً باللغة الإيطالية. «هذا الكتاب يعتمد على النسخة المكتوبة على الآلة الكاتبة تماماً كما عثرت عليها يوماً». إلا أنّ الأديب الإيطالي الراحل، كما تشير زوجته، ترك الكتاب من دون عنوان إيطالي. إذ كان عليه أن يفكر أولاً بالعنوان الإنكليزي للأبحاث Six memos for the next millenium، لأنّه كان سيلقيها في «جامعة هارفرد» خلال السنة الدراسية 1985 ــــ 1986. هكذا، جاءت العناوين فقط بالإنكليزيّة، لا المحاضرات، لكنّ كالفينو توفي قبل أن يسافر لإلقائها.
تتمحور المحاضرات حول ست وصايا أو مقترحات أدبية هي: الخفة،
كيف نحافظ على الأدب في عصر التكنولوجيا؟
الإشكال الثاني الذي يَظهر أمامنا لدى مقاربة الترجمتين، يتعلق بملحوظات زوجة كالفينو. إذ تبدو هي أيضاً مختلفة تماماً قلباً وقالباً بين النسختين! في الترجمة الأولى، تبدأ كالفينو كلامها بـ: «على الرغم من أنّني، في ما يتعلق بالعنوان...»، فيما تبدأ كلامها في الترجمة الثانية على الشكل التالي: «في 6 حزيران (يونيو) 1984 دُعيَ كالفينو رسمياً من طرف «جامعة هارفرد» للمشاركة في «المحاضرات الشعرية لشارلز إليوت نورتن». يتعلق الأمر بمجموعة من ست محاضرات تقدم خلال سنة أكاديمية...». ينسحب هذا الاختلاف على النصين بالكامل، فيبدوان كأنهما من إنجاز شخصين مختلفين! فمن هو المخلص للنصّ الأصلي أكثر؟ تزداد حيرتنا أمام هذا السؤال حين نجد المترجم الأول يمعن في حذف كل ما يشير إلى اللغة الإيطالية، ربما من أجل تأكيد حجته بأنّ الإنكليزيّة لغة الكتاب الأصليّة كما يزعم.
بعيداً عن هواجس الترجمة وإشكالاتها، تكشف هذه المحاضرات عمقاً في المقاربة اللغوية والمعرفيّة عند القاص والصحافي الإيطالي. نجده يمسك بإحكام بخيوط العالم اليوناني والروماني والشرقي، ويعتمد في بحثه على «ألف ليلة ليلة» والقرون الوسطى وصولاً إلى الأزمنة الحديثة. هذه المروحة الواسعة من المعارف، تجعل المحاضرات بحقّ موسوعة أدبية شاملة، تقدم رؤية مستقبلية للألفية الجديدة، من خلال ستة دروس كالفينيّة تسعى للحفاظ على قيمة الأدب في عصر التكنولوجيا والمعلوماتيّة.