كتاب الهايكو يجد طريقه مجدّداً إلى المكتبة العربيّة... هذه المرّة على يد شاعر سوري مقيم في اليابان، هو محمد عضيمة الذي يقترح ذلك الإرث العريق، مرجعاً للذائقة العربيّة
خليل صويلح
يسعى محمد عضيمة من دون هوادة إلى ترسيخ جذور شعر الهايكو الياباني في لغة الضاد، ليس عن طريق الترجمة فقط، بل أيضاً من خلال كتابة الشعر العربي بالمواصفات اليابانية. نراه يدعو صراحة إلى نسف الاستعارة والمجاز من تقاليد هذا الشعر، متناسياً أننا ببساطة... لا نعيش في اليابان. على هذا المنوال، أنجز «ديوان الشعر العربي الجديد»، وإذا بالشعراء يتحوّلون إلى أحفاد شرعيين لسلالة شعراء الهايكو، بالحذف واللصق وشدّ البراغي بين الجمل المتنافرة.
ولعل هذا الشاعر السوري الذي يعيش في اليابان منذ عقد ونصف عقد،، تأثر بنمط الهايكو، فأراد تعميمه مسلكاً شعرياً أوحد. في ترجمته لـ «كتاب الهايكو» بمشاركة الياباني كوتا ـــــ كاريا (دار التكوين ـــــ دمشق)، يحتفي بشعراء الهايكو عبر «ألف قصيدة وقصيدة». يتوقف ملياً عند إحدى أشهر قصائد الهايكو التي كتبها ماتسوو باشو (1644 ـــــ 1694)، بوصفها نموذجاً استثنائياً للشعر الياباني القديم: «يا للبركة العتيقة/ قفزت ضفدعة/ صوت الماء».
هذه القصيدة التي قد تثير استغراب بعضهم، تعبّر عن جوهر الهايكو لجهة الكثافة والاختزال اللفظي. إنها على أي حال قصيدة صوتية، قد لا تعني أبعد مما تصف أو تقول، غير أنّها في ذاكرة اليابانين تقع في مقام الأغاني الشعبية الموروثة. الهايكو إذاً، أقرب ما يكون إلى المزحة، أو المفارقة. قصيدة قصيرة تُكتب على يمين الصفحة من الأعلى إلى الأسفل، في ثلاثة سطور، تتحكم فيها مقاطع صوتية صارمة «تؤكد على التطابق بين المدة التي تستغرقها قراءة سبعة عشر حرفاً، وزمن التعبير عن لذّة التلقي».
لكن ما هو مصير شعر الحداثة في اليابان؟ لا يجد هذا الشعر إنصاتاً جدّياً، مقارنةً بالهايكو، ولعل هذا ما حدا بالشاعر تانيكاو شونتارو إلى القول: «لا أستطيع أن أعيش على ضفدعة باشو طوال حياتي». مقدمة محمد عضيمة للكتاب تبدو مضادة للحداثة اليابانية نفسها، رغم أن الهايكو يمثّل «الشكل الشعري الأشد التصاقاً بالروح اليابانية حتى اليوم». كأن الانصياع للروح اليابانية في الشعر وفقاً لهذه المقدمة، هو الدليل إلى القارئ الذكي. هكذا يبدو عضيمة كأنه مندوب مبيعات هايكو يرغب في تسويق بضاعته، مهما اختلفت حساسية من يخاطبه: إما أن تكتب هايكو، أو فلتذهب إلى الجحيم!

مقدمة الكتاب تبدو معادية للحداثة اليابانية...
أي خطأ معرفي يرتكبه صاحب «شكراً للموت»؟ وأية رؤية نقدية يسعى إلى تعميمها، بأقصى حالات الشفوية. «الويل لك إن شربت من غير منابع الضاد حتى وإن كانت تحت أذناب البعير». مهلاً هناك هجاء مرير للبحتري، لأنه لم يصف بركة باشو على الطريقة اليابانية، ولم يمجد الضفادع في شعره. ما هذا العسف في المقارنة بين ثقافتين شعريتين متباعدتين؟ أينبغي أن يكون الشعر مسلّياً وطريفاً ومضحكاًً حتى نعترف بقدرته على التأثير؟
الهايكو نمط شعري مهم في تاريخ الشعر العالمي، لكنّ فرضه على الذائقة العربية، يبدو مشروعاً فردياً لصاحبه وحسب. وما محاولات عضيمة الشعرية في هذا السياق إلا دروس أوليّة في تصدير الهايكو إلى الثقافة العربية، وتحويله إلى دواء لعلاج كل الأمراض الشعرية السارية في الذائقة. يستغرب عضيمة بجدّية كيف نستعمل التكنولوجيا اليابانية، وننفر من الهايكو، أو ننتقص من قيمة التسلية في الشعر العربي، ونفتقد الضفادع والجنادب وأزهار الكرز في هذا الشعر. لا شكّ أن بعض نماذج الهايكو بديعة في إصغائها إلى الطبيعة والكائنات عبر لغة متقشّفة تنطوي على افتتان بالأشياء الرقيقة والعابرة، ومخاطبة العناصر والموجودات بضربة مباغتة. لكن الهايكو، في نهاية المطاف، هو هايكو وحسب. يخيّل إلى من يقرأ هذا الشعر أن الحياة تمشي على مهلها، في دروب لم يسلكها أحد، فتسجّل حركة المرئيات بعدسة خاطفة، تشبه حركة المروحة اليدوية وزخارفها الدقيقة. «هكذا يتناقص/ العطر/ قطرةً بعد قطرة» أو «احمرّت التفاحة كلها/ حتى لم يعد هناك مطرح/نُدخل فيه حد السكين».
هذه بعض نماذج الهايكو الحديث الذي يسعى إلى تجاوز القاموس القديم بمفردات تطيح محيط الدائرة الضيّقة، لتشتبك مع لحظة راهنة. رغم ذلك ينبغي أن نكرّر مرةً أخرى، أن الهايكو لا يمكن أن يكون مستقبل الشعر في العالم، كما يطالبنا محمد عضيمة بشراسة واندفاع ولهفة... لو صحّ ذلك، فسيدخل الشعر في نفق مظلم، يشبه سرير بروكرست، في بتر الأعضاء الفائضة.