النصّ الشهير الذي وضعه الكاتب الألماني في لحظة مأزومة، انبعث احتفالاً سوداوياً مع فرقة «زقاق». في بيروت هذا المساء
بيار أبي صعب
«هاملت ـــــ ماشين» نصّ قصير لهاينر مولر، قد يكون بين الأصعب تجسيداً على الخشبة. مجموعة مونولوغات متلاحقة، تتخلّلها إشارات إخراجيّة، لشخصيات واهية على حافة الانهيار. الكاتب الألماني (الشرقي) يعيد النظر في الأسطورة، في الثورات وأسباب فشلها، من خلال قراءة لشكسبير حمـّلها شكوكه الفلسفيّة وإحساسه باستحالة الكتابة الدراميّة في لحظة تاريخيّة مأزومة، تشهد سقوط الأوهام.
النصّ المكتوب سنة ١٩٧٧ في بلد شيوعي، يقوم على خطاب مركّب، ونقد غير مباشر للسلطة وموقع المثقّف الملتبس منها. وهو مليء بالإحالات الأدبيّة (شكسبير، دوستويفسكي)، والإخراجيّة (بريخت، آرتو)، والجماليّة (مارسيل دوشان «الماكينة العازبة»)، والتاريخيّة (الاجتياح السوفياتي لبودابست ١٩٥٦). «نصّ مفتوح» مسكون بالفراغات، جرّده مولر من أي فعل درامي، ونسف كلّ إمكانات التأويل، تاركاً تلك المهمّة على عاتق الرؤية الإخراجيّة، علماً بأن المؤلف الذي عاش ليشهد سقوط جدار برلين، بادر بنفسه مرّتين إلى مسْرَحة Hamlet-Machine (١٩٩٠ و١٩٩٥ عام رحيله)، بعدما شهرها المخرج الأميركي بوب ويلسون في عام ١٩٨٧. يمكن أن نفهم جرأة جماعة «زقاق» التي تبادر اليوم إلى تقديم «هاملت ـــــ ماشين» (جنيد سري الدين، معرّب النصّ الذي يصدر قريباً عن «دار الفارابي»، فضّل «هملت ماكينه»). غاص أعضاء الفرقة اللبنانيّة الشابة في رحلة بحث طويلة. اشتغلوا على نقاط الارتكاز التي تمكّنهم من تجسيد نصّ مولر، الآن وهنا ـــــ للمرّة الأولى عربيّاً على حدّ اطلاعنا ـــــ ثلاثين سنة بعد ولادته الرسميّة على الخشبة في باريس، بإخراج جان جوردوي. حين ندخل إلى صالة «دوّار الشمس» يكون الممثّلون الأربعة، مايا زبيب ولميا أبي عازار ودانيا حمّود وجنيد سري الدين، قد بدأوا باستعداداتهم لمعايشة تلك الشخصيّات التي لن يندمجوا فيها... الخشبة ليست إلا الكواليس، تزدحم بالملابس المعلّقة من أزمنة عبرت، فساتين وقبعات ومرايا وكنبات مقلوبة، كأن الانهيار الكبير مرّ من هنا. إلى اليمين في المقدّمة تابوت عملاق يحيلنا إلى جنازة «الجيفة السامية» التي سيبدأ منها المؤدّي مونولوغه «كنت هاملت». التابوت هو أيضاً خزانة تُخرج منها أوفيليا

أوفيليا ثوريّة تدعو إلى العنف الدموي

ملابس «العاهرة» التي سيرتديها هاملت. وفيها شاشات تبثّ تقاسيم أدائيّة على هامش اللعبة. جزء اليسار تحتلّه أكياس نايلون تضمّ جثثاً/ دمى يعمل على إنجازها رجل بمريول الممرضين الأبيض، في عمق الخشبة. هنا سترقص بصمت دانيا حمّود. إضاءة النيون تسبغ على المكان مناخاً فجّاً يختزل الرؤية (فيديو وإضاءة رامي صبّاغ).
«ماكينة» مولر تعيد النظر في المسرح، تضع مسافة بين الدور والمؤدّي، تقلب المعادلات وتخلط الشخصيّات، وتطرح سؤالاً سياسيّاً أساسيّاً. وممثّلو «زقاق» (إخراج عمر أبي عازار)، يحاولون أن يتسللوا من هذا الشرخ، تاركين للكلمات أن تتخذ دلالاتها ومعانيها الجديدة. في أزمنة مضطربة بعيدة عن النصّ يستعيدون لعبة التمرّد: «بعد وقت مناسب على سقوط التمثال تأتي الانتفاضة. مأساتي إن كانت ستحدث، فستحدث في زمن الانتفاضة». هاملت/ جنيد سري الدين يحلم بالخروج من التاريخ أو تغيير مجراه. يتقيّأ على طيف أبيه: «ماذا تريد منّي. ألا تكفيك جنازة وطنية. أيها الطفيليّ المسنّ»، وأمّه الخائنة: «اذهبي إلى عُرسِك يا عاهرة». ثم يستقيل: «أنا لست هاملت... مأساتي لم تعد تحدث...».
أما أوفيليا فتتحوّل من رومانسيّة عاجزة إلى ثوريّة تدعو إلى العنف الدموي. لقد حمّلها مولر ملامح أولريكه ماينهوف قائدة «الجيش الأحمر» آنذاك. أوفيليا/ ماينهوف اللبنانيّة (مايا زبيب)، تنتهي بدورها على كرسيّ نقّال، مربوطة باللفافات البيضاء، وترجّع القاعة حكمها القاطع: «فلتسقط بهجة الخضوع. عاشت الكراهية، الاحتقار، الثورة، الموت».


حتّى ٤ ت١/ أكتوبر ـــــ «مسرح دوّار الشمس» (الطيّونة/ بيروت) ـــــ للاستعلام: 01/381290