برز اسكندر قبطي في «كان» حيث قدّم تجربة لافتة، مع «شريك» إسرائيلي هو يارون شاني. لأهل فلسطين التاريخيّة ظروفهم المعقّدة، لذا طلبنا من أديب وزميل ينتمي إلى الواقع الشائك نفسه، أن يقرأ «فيلم الازدواجيّة بامتياز» الذي قد يمثّل إسرائيل في «الأوسكار»
حيفا ــ علاء حليحل
يبهرك فيلم «عجمي» لحظة مشاهدته، ثم يصفعك، ثم تحتاج يوماً أو يومين كي تنجح في معالجته بهدوء وروية، وخصوصاً في ما يخصّ المقولة السياسية التي يخرج بها الشريط. هو فيلم الازدواجية بجدارة: ازدواجية الإخراج (يارون شاني اليهودي واسكندر قبطي العربي)، ازدواجية التمثيل (ممثلون عرب ويهود)، ازدواجية التعريف (فيلم إسرائيلي ـــــ فلسطيني) وازدواجية المجتمع (يافا، اللد، الرملة، تل أبيب).
يطرح العمل قضية شائكة لم يسبق أن عولجت بهذا الزخم في عمل سينمائي: وضع الفلسطينيين في يافا (واللد والرملة) اليوم، واستحالة العيش في الظروف السياسية والمجتمعية التي أفرزها قيام دولة إسرائيل. هذا بعدما أدّت النكبة إلى قتل يافا واللد والرملة، وتحويل هذه المدن من حاضرة مدينية ثقافية وسياسية، إلى ضواحي فقر وجريمة في الراهن الإسرائيلي اليوم. هي ــــ إذا شئتم ــــ تجليات النكبة بعد 61 عاماً: هذا ما قد يؤول إليه الفلسطينيون في إسرائيل، وهذه هي المرآة التي ننظر من خلالها إلى مركز فلسطين التاريخي: بؤس وجريمة وضياع للمستقبل.
بؤس وجريمة ومستقبل ضائع... فأين مسؤوليّة الاحتلال في تلك المأساة؟
يتمحور «عجمي» حول قصص عدّة، ضمن كتابة سينمائية على نمط mini plots، أي الحكايات الصغيرة المتطورة لعدد كبير من الشخصيات. تجتمع كلها في تراكم حبكي عند نهاية مكثّفة، كي تصنع مقولة واحدة تراجيدية. لكن المشكلة الأساسية في الفيلم تتجلى في النهاية، حين تتضح معالم المفاجآت التي تحتويها: كنّا نظن أنّ مالك (الشاب من الضفة الغربية) قُتل برصاصة ضابط الشرطة اليهودي داندن، لكننا نكتشف أنّ مَن قُتل بالذات هو الضابط داندن برصاص الطفل نصري.
كنا نعتقد أن بينج العربي قتله ضباط الشرطة خلال مداهمة لبيته، ثم نكتشف أنّه مات بجرعة كوكايين (كريستال) زائدة. كنا نعتقد أنّ لا علاقة بين الجندي المخطوف (أخ ضابط الشرطة) وقصص يافا، إلا أننا نكتشف أن الساعة التي كان يود مالك أن يهديها إلى مُشغِّله أبو الياس تعود إلى الجندي المخطوف الذي تُكتشف جثته لاحقاً.
هذه الانفراجات في الحبكة (من ناحية معرفية) تقود المشاهد إلى بعض الأسئلة الملحة: يبدو أن الشرطة تقوم بعمل ممتاز في يافا واللد والرملة، ويبدو أنّ الضابط هو إنسانيّ من الدرجة الأولى، رغم كلّ شيء. هذا التسطيح يحمل قراءة مغلوطة ــــ من الناحية السياسية ــــ للوضع الراهن، ولا يشفع للمخرجيْن أنّ الشريط محبوك ومصنوع بمهارة عالية. السينما ليست وضعية الكاميرا وإتقان السيناريو والتصوير، فقط، بل هي ــــ وربما بالأساس ــــ المقولة التي صُنع من أجلها الفيلم. إذ إنّ شريط بلا مقولة هو ترفيه مصقول، و«عجمي» ليس فيلم ترفيه على الإطلاق. لا يمكن الاختباء وراء الفنية العالية والجرأة الهائلة في الطرح الاجتماعي، ولا يمكن الاكتفاء بمقولة: «ما بدنا كل شي ينحدر من مفهوم سياسي». لكن ما العمل إذا كان الفيلم سياسياً من الدرجة الأولى، شاقاً يضغط على الجروح المفتوحة بألم؟
في أحد مشاهد الفيلم، يهبّ أهل الحي العرب للدفاع عن مطلوب للشرطة من حارتهم، ويتصدّون للتحرّيين، فيسأل أحد الضباط بيأس: «لماذا يمنعوننا من اعتقاله؟ نحن نريد اعتقال مجرم يبيع المخدرات لأبنائهم؟». الجواب يأتي بسرعة من أحد الضباط في الجلسة: «إنهم ببساطة يكرهوننا». وهذا صحيح مئة في المئة. نحن نكره الشرطة الإسرائيلية؛ إنها شرطة عنصرية وقامعة وقاتلة وتتعامل مع العرب باحتقار وكراهية. الشرطي ليس «في خدمة الشعب» بل في خدمة المؤسسة القمعيّة. هذه هي الحقيقة الأساسية في الفيلم، وأعتقد أنّ مخرجيْه فوّتا فرصة ذهبية في تطوير هذه الثيمة، ليفقدا القدرة على صوغ لائحة الاتهام الكامنة في جوهر الفيلم.
هل أحببتُ الفيلم رغم هذا؟ الحقيقة أنني أعيش ازدواجية قد يقع فيها كثيرون أيضاً. من جهة، نحن نعلم أنّنا لسنا ملائكة وفينا المجرمون والقتلة والفتوّات، ومن جهة أخرى نحن نعلم أنّ يافا ستكون أجمل وأبهى وأكثر تطوّراً من تل أبيب، لولا قتلها في عزّ شبابها. من هنا، لم ينجح الفيلم نهائياً في كتابة المرثية المطلقة ليافا، لكنه على الأقل بدأ بكتابة تأبينها. هذا التأبين سيكون أبلغ وأصدق لو أنه ركّز أكثر على القاتل ــــ وعذراً على الفظاظة ـــــ بل بصق في وجهه.
«عجمي» فيلم مشغول بحنكة وذكاء (رغم الإطالة أحياناً)، ونأسف لكونه لم يذهب، في مهاراته، أبعد مما تقتضيه اللقطات المؤثرة في أزقة يافا.


«أوسكار» المفارقة!

فاز فيلم «عجمي» أخيراً بجائزة «أوفير» الإسرائيلية، ما يعني أنّه سيمثل إسرائيل في الأوسكار. وكان قد حصل على جائزة التنويه الخاص خلال «مهرجان كان السينمائي» الأخير، والجائزة الأولى في «مهرجان القدس الدولي» وبدأت عروضه في حيفا والناصرة. الشريط دراما اجتماعية بوليسية تشويقية من 5 مقاطع قصصية مختلفة تدور أحداثها في حارة العجمي الشهيرة في يافا، ويستعرض مشاكل سكّان هذا الحي الذي كان من أعرق أحياء يافا قبل قيام دولة إسرائيل، بدءاً بقضايا الثأر والانتقام، وصولاً إلى الجريمة والعنف والمخدرات... هذا الحي الساحلي، ببيوته التي تحكي نهضة مركز فلسطين الإقتصادي في النصف الأول من القرن العشرين، بنته الأرستقراطيّة الفلسطينيّة خارج أسوار المدينة القديمة. لاحقاً، تحوّل إلى حيّ الفلسطينين الباقين بعد النكبة، وعملت بلديات تل أبيب المتعاقبة على هدم بيوته وإفقار سكانه.