عودة إلى «حديقة نيرودا» قبل أن يسدل عليها الستار سارا صحناوي
يتوزّع معرض أكرم زعتري في فضاءين للفنّ المعاصر. الجزء الأول في «غاليري صفير ـ زملر» يجمع أعمالاً فنية سابقة وراهنة، فيما يضمّ «مركز بيروت للفن» جزءاً آخر يمكن اعتباره عرضاً قائماً بحد ذاته. عنوان هذا الجزء: «أرض تكتنفها الأسرار: كتابة لزمن مؤخر» هو بليغ من حيث تحديده مسارين ثابتين في عمل الفنان. زعتري يحبّ أن يقيم صلة قرابة بين شغله ونظرة عالم الآثار. هكذا، جمع صوراً ووثائق وآثاراً تشهد على مسيرة الأسير المحرّر نبيه عواضة. عملية الاستعادة، هي ـ في حدها الأدنى ـ عبر الوثائق الموجودة التي لم يجرِ تحويلها أو تقسيمها، بالكاد جرى تأويلها. خلافاً لما سبق، القطع التي تتألف منها «حديقة نيرودا»، في هيئتها البصرية، تبدو محفوظة، مركونة في بياض حليبي لعلبة مضاءة. تلك العلبة تصلح هنا للتأطير واختراق الكثافة والتركيزما تمكّن زعتري من إنجازه بسلاسة، هو عملية تغريب أعاد عبرها تشكيل رسائل نبيه عواضة عندما كان نزيل المعتقلات الإسرائيليّة، بحيث تستحيل تلك الرسائل أشياء تسمح برسم مسار آخر. هو يخفف من وطأة العاصفة الثائرة في وجه المأساة الإنسانية، ويعزز التفكير في معنى الأسر ومكانه وفي الاتصال كقيمة مُقَاوِمَة أو حاجة حياتية، وفي فعل الإدلاء بالشهادة في ظروف وموقف عقائدي. يوفّر زعتري أيضاً شكلاً من «سلالة» واستمرارية لحكاياته. غير أنّ عملاً كهذا يمكنه، عبر بعده الوثائقي والفكري، أن يكمل فكرة متداولة في السياسة والاجتماع. في المشهد الإعلامي، كثيرة هي المقالات التي تشير إلى قضية المعتقلين وتسهم في واجب إيقاظ الوعي الوطني وتغذية الفجيعة الخاصة وتحفيز النقاش السياسي.
أما معرض زعتري، فيقدّم نفسه على إيقاع فرح، بلا شكوى، فالأزهار التي لوَّنها نبيه عواضة في سجنه بمعجون الباستيل، أعطته هذه النبرة. ما هو ظاهر من دون الإضاءة عليه، يقرّبنا من أوجه أكثر حساسية وهشاشة، في تأرجح الفرد بين صلابته وضعفه... لاحقاً، يأتي اختفاء الكلمات والإبقاء على الألوان، امتداداً لتسلسل الرسوم الملونة في حركة للذاكرة أكثر رومنطيقية. مَن يقرأ الرسائل يلمس كم هي مفعمة رقة وأملاً، وفاءً لتقليد عربي محض. ومن سجنه، يوقّع نبيه... باسم «نيرودا». من سجن لآخر، يبقى السجن نفسه.
صور عواضة ورسائله، ضمن سلسلة «اللا مرويّ» حسب تسمية الفنان لمشروعه، ترسم صورة وحيدة، على غرار التصوير الفوتوغرافي في الاستوديو: نسخة مقلدة مستوحاة من الوسائل البدائية لمكان الاعتقال. مقابل الأبيض المستعمل في «حديقة نيرودا»، تأتي الصور الشخصية لزملائه المسجونين وإهداءاتهم، على هيئة مربعات سوداء صغيرة زاخرة بألوان وبكتابات لا تكاد تقرأ لاسم المناضل واسم

يطوي عواضة رسالته ويضعها في كبسولة صغيرة، كما يفعل المناضلون في زنازينهم

السجن، وعدد سنوات الاعتقال. البساطة تحكم أسلوب العمل، حيث تتخطى الوضعيّة المتعمَّدة التي أخذها المقاومون المعتقلون، وتنبعث منها شبهة جو فولكلوري في إطار الاعتقال. مجموعة الصور هذه، تحتوي طابعاً فردياً وموضوعياً في آن. هذا الطابع يمثّل ـ على خطورة الظرف ـ صورة شبه «إيجابية». إذ يدلي كل محتجز بشهادته عن جسده، وعبر جسده، وهو بذلك يوقع فعل الحضور والدعم تجاه «أخ» آخر معتقل، هو نبيه عواضة نفسه. هكذا، تحت أنظارنا المأخوذة والباحثة، يسهل تخيّل الخارطة المستحيلة لمسافات نفسانية وعزلة مقطوعة. أكرم زعتري يدعم معنى أعماله بكثافة عبر جمعها في تجهيز فني، حيث الأفراد يتعانقون والزنازين كذلك. في السلسلة ذاتها، يجمع حجّتين بلاغيتين: حجة التواطؤ والتضامن الإنساني، وحجة التضامن السياسي. هكذا يأخذنا من فقّاعة التجربة الشخصيّة والداخليّة المعيشة، المتمثلة هنا بمراسلات بين شخصين، إلى نطاق الواجب الوطني المتمثل «بانتساب» رسمي وظهور علني للأسير السابق سمير القنطار.
الترابط التسلسلي للصور والكتابات والفيديو الخاصة بعرض «اللامرويّ»، يقدم لحظة تأمل أمام صورة جامدة، تتميز بوضوح عن قطع المعرض الأخرى. إنّها صورة للأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، مستقبِلاً سمير القنطار بُعيد تحريره. في القاعة ذاتها، يعرض فيديو لنبيه عواضة يكتب بصمت رسالة إلى القنطار، لا يمكننا رؤيتها، لحظة صياغتها. الرجلان تشاركا النضال والأسر، ثم خرجا إلى الحرية ويعيشان على التراب ذاته.
بعدما ينتهي عواضة من كتابة رسالته، يطويها جيداً حتى تصبح بصغر كبسولة، ويخيطها ويُحْكِمْ ربطها بتدقيق مفرط، تماماً كما كان يفعل المناضلون في زنازينهم للتواصل في ما بينهم ومع الخارج عبر نقل تلك الكبسولة (بالفم غالباً) خلال الزيارات... ستبقى رسالة عواضة إلى القنطار لغزاً حتى إشعار آخر. هل هي محض مصادفة أن تُعرض القطعتان الوحيدتان اللتان توثقان حقبة ما بعد الاحتجاز، داخل غرفة صغيرة سوداء ومعزولة؟ أيمكننا القول إنّه حتى خارج القضبان، ليست الحرية بالضرورة حقاً مكتسباً، وإن ذاكرة الاعتقال ثقيلة جداً؟


ترجمة غيث الأمين (عن الفرنسيّة)
«أرض تكتنفها الأسرار»: حتى آخر ت1 (أكتوبر) ـ «غاليري صفيرـ زملر»: 01/566550 «كتابة لزمن مؤخّر»: حتى 3 أكتوبر ـــ «مركز بيروت للفنّ»: 01/397018