«أرض تكتنفها الأسرار» معرضاً مزدوجاً في بيروت بيار أبي صعب
من هو أكرم زعتري حقّاً؟ مصوّر فوتوغرافي؟ فنّان فيديو؟ سينمائي؟ باحث ومنظّر؟ مؤرشف؟ ربّما كان يجمع هذه الصفات كلّها، ضمن مسيرة إبداعيّة واحدة... مسيرة تنتمي بامتياز إلى «الفنّ المعاصر» الذي يتقدّم ببطء على الخريطة العربيّة، من دون أن يجد له حتّى الآن ما يكفي من الشرعيّة والاعتراف: على مستوى البنى والمؤسسات والفضاءات، وعلى مستوى الإقبال أيضاً. والمقصود بالإقبال، هو السلوك الجماعي والوعي الثقافي العام، وما يستتبعانه من حاجات وتقاليد جديدة، من لغات وقوالب ومصطلحات، من وسائط وأشكال تعبير تتغيّر معها النظرة إلى «الأجناس» الفنيّة، وتزول الحدود الفاصلة بينهاأكرم زعتري (صيدا، 1966) فنّان معاصر إذاً؟ المبدع الذي يحتلّ واجهة الحياة الثقافيّة حاليّاً في بيروت، من خلال معرض بعنوان «أرض تكتنفها الأسرار»، يتوزّع على فضاءين أساسيين هما «غاليري صفير ــــ زملر»، و«مركز بيروت للفنّ» BAC، هو قبل كل شيء أحد أبرز ممثلي جيل جديد في الفنّ اللبناني. هذا الجيل نشأ في الحرب الأهليّة، وشُغل بالبحث عن أسئلتها المعلّقة أو المدفونة بين خرائب الوطن وأطلال الروح. بدأ من حيث انتهى الجيل السابق، مفككاً لغاته من خلال أدوات ووسائط جديدة، بحثاً عن مقاربات للواقع أكثر التباساً وإشكاليّة. والحرب ـــ في بعض محطاتها الحاسمة ـــــ هي محور معرض أكرم زعتري الحالي الذي انطلق مطلع الربيع من ميونيخ (كونستفيراين)، قبل أن يحط رحاله في بيروت حتى تشرين الأول (أكتوبر) المقبل. (مطلعه بالنسبة إلى الـ BAC، وأواخره في «صفير»).

إجتهاد «تغريبي» يضع مسافة بين التجربة وطريقة استعادتها في اللحظة الراهنة
هذا المعرض المزدوج، بأعماله وعروضه وتجهيزاته، هو خلاصة رحلة طويلة مع البحث والأرشفة والإنتاج الفنّي (من الصورة إلى الفيديو)، تمخّضت عن عروض مختلفة. ولعلّه يعلن مرحلة اكتمال في مسيرة زعتري الذي يزور هنا أعمالاً ومشاريع قديمة انتجها على مرّ السنوات، كاشفاً عناصرها الخفيّة التي كانت قد بقيت خارج حقل الكاميرا. هناك كليشيهات لأشرطة الكاسيت وعلبها وخربشاتها، وألبومات الصور ودفاتر المذكرات التي استعملت بعض عناصرها مثلاً في فيلم بعنوان «اليوم» (2003 ــــ هذا الشريط يسائل الحدود في منطقتنا بين بادية الشام في الخمسينيات، واجتياح لبنان 1982، ورام الله اليوم). تلك العناصر، تظهر هذه المرّة بماديتها، لتحيلنا على زمن ومزاج وتفاصيل حميمة وذاتيّة واضحة. ينبغي القول إن الحميم هو دائماً في قلب تجربة زعتري ورفاقه، وضمير المتكلّم هو الشاهد الأوّل، والبطل المطلق، والمرآة التي تستضيف ذات المتلقّي. الأعمال المستعادة (خمسة أفلام فيديو/ تجهيزات عرضت أو تعرض في الـ BAC و«متروبوليس» و«صفير») تتكتّل حول موضوع واحد في النهاية، هو شغل أكرم الشاغل: مساءلة المكان والزمان في هذه المنطقة المضطربة من العالم. رصد التحولات في مجال الثقافة والسياسة والاجتماع، غالباً من وجهة نظر شهود عيان، ومن خلال عدسة الراهن الدائم المخاض. كيف يخضع إنتاج الصور لسلطة النظام السائد؟ كيف نصوّر الحرب؟ والمقاومة؟ أين تقف البطولة لتبدأ التعبئة الأيديولوجيّة؟ إلخ. المحطات السابقة من عمله، تكتّلت هنا في وحدة عضويّة، فإذا بعلاقة «تجاذب» ديناميّة تقوم بين أجزائها ومراحلها وموضوعاتها... بل يمكن اعتبار معرض «أرض تكتنفها الأسرار» بشقّيه، محطّة جديدة في مشروع متواصل طبع تجربة صاحب «العلكة الحمراء» و«مجنونكَ»، منذ أواسط التسعينيات. كل ما في الأمر أن الأسئلة الأولى تبلورت مع الوقت، وازدادت تشعّباً وتعقيداً. كذلك إن العلاقة بالمادة الفنيّة نفسها أزدادت نضجاً وراديكاليّة. من مصوّر وفنّان فيديو وتجهيز، يشتغل على الأرشيف البصري والصوتي إلخ، ويوظّف مؤثراته في عمله... إلى فنّان نقدي يعيد إنتاج الأرشيف نفسه موضوعاً للعرض، بما فيه من مقتنيات وأشياء خاصة: أشرطة كاسيت (مثلاً كاسيت أغنيات مسلسل «أنا وانت وبابا ف المشمش» بصوت فردوس عبد الحميد، مع صورتها على الغلاف)، وبكرات أشرطة الصوت نصف إنش، دفاتر مذكرات، وقصاصات صحف، صور وثائق، ألبومات، مظروفات صور قديمة، رسائل، إلخ.
والشغل على الوثيقة (الصورة أساساً)، ليس غريباً على هذا الفنّان الذي استثمر بمنهجيّة نقديّة، وهمّ تأريخي ـــــ أركيولوجي ـــــ جمالي أحياناً، كنوز «المؤسسة العربيّة للصورة» (وهو أحد مؤسسيها)... فإذا به يتحاور تارةً مع المصوّر الأرمني المصري فان ليو، ويعود تارةً أخرى إلى بادية الشام في الخمسينيات مع أشغال جبرائيل جبّور ومانوغ، كذلك كرّس للمصوّر الصيداوي هاشم مدني ومحترفه أكثر من معرض وكتاب. لكنّ تجربته الحالية تأخذنا أبعد من ذلك. فمصادر العمل الفنّي وصيرورته ومراجعه وأدواته، صارت هنا موضوعاً قائماً بذاته، ومحوراً جماليّاً غنياً بالإحالات الفكريّة والسياسية المضمرة... وهذا الاجتهاد «التغريبي» يضع مسافة بين المعاناة/ التجربة/ القضيّة، وطريقتنا في استعادتها والتعامل معها في اللحظة الراهنة.


«أرض تكتنفها الأسرار» ـــ حتى آخر تشرين الأوّل (أكتوبر) ـ «غاليري صفير ـ زملر» (الكرنتينا/ بيروت): 01/566550 ـــ www.sfeir-semler.com
«كتابة لزمن مؤخّر» ـ حتى 3 ت1 (أكتوبر) ـ «مركز بيروت للفنّ» (جسر الواطي ـــ بيروت): 01/397018
www.beirutartcenter.org


أهلاً بكم في «حديقة نيرودا»
ترى ماذا كتب نزيل عسقلان السابق إلى رفيقه القنطار؟
هناك صورة كبسولة من نوع آخر في المعرض، تتضمّن رسالة من سجين سابق في قبضة الجيش الإسرائيلي، هو نبيه عواضة، إلى سمير القنطار بعد تحريره. ذلك النوع من الكتابات الصغيرة الملفوفة، المغلفة بالنايلون التي كان يبتلعها المناضلون المعتقلون ثم يتناقلونها عبر وسيط للتواصل في ما بينهم. نحن في الشقّ الآخر من المعرض في «مركز بيروت للفن» تحت عنوان فرعي هو: «كتابة لزمن مؤخّر»، ويتمحور حول السجين السابق نبيه عواضة. في عمل الفيديو يصوّر أكرم، النزيل السابق لسجن عسقلان، وهو يكتب إلى رفيقه القنطار، ما لا يمكن أن يقوله له اليوم. نحن لا نرى في النهاية سوى فعل الكتابة، وليس لدينا سوى صورة الكبسولة المخبأة للزمن المقبل. وحول الشريط مجموعة من 48 صورة لرفاق نبيه في المقاومة وأيام الاعتقال، معظمها مهداة إليه، مع تفاصيل عن كل معتقل والمكان الذي ينتمي إليه. هذا الجزء من المعرض عنوانه «اللامرويّ»، يكمّله عمل آخر هو «حديقة نيرودا» (نيرودا كان توقيع عواضة آنذاك). ويضم مجموعة صور وأشرطة سمعيّة وكتباً ووثائق ورسائل من الأسير السابق إلى أهله ورفاقه. مناخ التجهيز الخانق يتناقض مع نبرة التفاؤل التي كانت تشوب رسائله أيام السجن... فأكرم زعتري يبحث دائماً عن هذا الشرخ بين التجربة المعيشة والخطاب الرسمي الذي يصلنا في النهاية.