في كتابه «مَدْيَنة الحياة»، يقدّم محمد العباس مطالعة سوسيولوجيّة للمشهد الروائي السعودي الذي عرف فورة مثيرة منذ التسعينيات، بفضل «جمالية البذاءة» في نصوص تكتب الـ«أنا» الخائبة. ويخلص الناقد إلى أن تلك الفضاءات السردية لم تتمكن من ردم الهوّة بين مجتمع مدني متخيّل، وآخر غيبي تحت وطأة الرقابة الدينيّة
خليل صويلح
بعيداً عن الضجيج الذي أثارته الرواية السعودية منذ تسعينيات القرن المنصرم، يعيد محمد العباس تشكيل هذا المشهد في قراءة معمّقة لتمثّلات هذه الرواية في السرد العربي، من وجهة نظر سوسيولوجية في المقام الأول. هكذا، تناول عدداً من العناوين والموضوعات التي هيمنت على الخطاب الروائي في المملكة خلال الطفرة الروائية، من خلال مجموعة دراسات وأوراق قدمت في مناسبات مختلفة. معظم هذه النماذج سعت إلى مواجهة المحرّم والمستور في المجتمع السعودي، أكثر من اهتمامها بالجوانب التخيليّة والجمالية. وكأن هذه الطفرة، وفقاً لما يراه الناقد السعودي في كتابه «مدْينة الحياة... جدل في الفضاء الثقافي للرواية في السعودية» (دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع ـــــ دمشق)، أتت من باب المجابهة لقيم سلفية مستقرة، مهمتها تعقيم المجتمع وتعطيل سياقاته المدينية... فكان استهداف المؤسسة الدينية (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) بوصفها جهازاً رقابياً قمعياً، الساحة الأساسية للعب الروائي... وذلك بقصد «تعميق الحفر في مجرى لحظة التنوير»، وفضح «وهم عراقة القبيلة»، وكشف «خبايا العلاقات المثلية» في مجتمع يصنع العفّة المتوهمة. هكذا، اقتحمت الساحة الروائية أسماء وهمية وأخرى حقيقية، بما يشبه مرافعات حقوقية ذات طابع أدبي، وذلك بهدف تعزيز قيم المواطنة في واقع متخثّر وجوّاني وكتيم.

انفجار الصمت النسوي؟ مجرّد «ليبرالية صورية»!
هكذا بات «المطوّع» بطلاً بلا منازع في معظم الروايات الجديدة في مراودات سردية للتحرر من الوصايا، وهيمنة المقدّس، وتدنيس كل مظاهر الحياة المغلقة بخطاب مغاير، والتطلّع إلى مجتمع مدني غائب، وتوطينه سردياً على الأقل. لكن مشكلة هذا الخطاب الروائي تكمن ـــــ وفق ما يقول العباس ـــــ في استنساخ الواقع من دون تحليله أو تأويله، وتالياً، تقويضه، في مشهد محكوم بانتباهات فردية ظلت في الواقع عند حدود الهامش والعناوين الاستفزازية، وذلك من خلال تكريس السرد الأحادي الموقع، في لغة إخبارية تفتقد التأويل، وكذلك عدم قدرتها على توطين القيم التنويرية، كمحصّلة لـ«ثبات البنية وتكلّس المعنى». وكان العباس قد أشار في أحد الحوارات التي أجريت معه إلى أنّ «واقع الرواية السعودية لا يبشر بشيء من التجاوز على المدى القريب، وخصوصاً أنها تُكتب عبر ذوات لا تمتلك أدوات التعبير اللغوي الضرورية، وغير قادرة على تحليل اللحظة وما وراءها. أما الأسماء ذات الخبرة والسمعة، فيبدو أنّها مستسلمة لسطوة الظاهرة الإعلامية، وبالتالي يصعب توقّع رواية يستكمل فيها الإطار الفني صخب المضامين، كأن الجميع قد تواطأ على الخمول، وإنتاج رواية باهتة شكلاً ومضموناً، أو على درجة من العادية».
ويلفت صاحب «حداثة مؤجلة» إلى أنّ هذه الفضاءات السردية ـــــ في انتقالها من الشفاهي إلى المكتوب ـــــ لم تتمكن من ردم المسافة بين مجتمع غيبي، ومجتمع مدني متخيّل. وإذا بهذه النصوص تدور في الفراغ لتكتفي بلافتات تبشيرية عاجزة عن التقاط لحظة الديموقراطية، فـ«إعلان الرفض وتصعيد نبرة الاحتجاج، في تداول المواضيع الوعرة، علامات تدل على انقهار الكائن وحيويته في آن»... وما هذه الحمّى الكتابية إلا صدى لأنا ناقمة وخائبة ومغتربة عن شرطها الإنساني، لا تعكس التعبير الواعي بدستور الحرية الفردية، أو ما يسمّيه الناقد «انفجار التناقضات»، في نزاع معلن بين المدْينة والحداثة والفكر الليبرالي من جهة، والمؤسسة الدينية من جهةٍ أخرى، إضافة إلى الأعراف القبلية التي تُعتبر بمثابة «الأرض الحرام».
إن الاختباء خلف أسماء وهمية غالباً، عزّز «جماليات الفحش اللفظي» في نماذج روائية مقهورة ترغب في تجسيد صورة واقعية لفضح قاعٍ اجتماعي مهمل ومدثّر بما ليس فيه من فضائل. هذا ما نجده لدى ليلى الجهني في «جاهلية»، ويحيى أمقاسم في «ساق الغراب»، وعبد الله التعزي في «الحفائر تتنفس» وصبا الحرز في «الآخرون»، وحتى رجاء الصانع في «بنات الرياض».
الوعورة اللفظية هنا لا تتسق بالضرورة مع متطلبات السرد بقدر ما هي فعل انتقامي من موروث روائي محتشم، وانخراط في منطوق كلامي يومي وشعبي متخفف من الوصايا، كما يطمح إلى «تحرير النص الروائي من أحادية الصوت المحقون باعتقادات الكاتب والقامع للتعددية الصوتية». ولعله، في ما يتعلق بنصوص الكاتبات، وتحديداً ما نراه من هتك للغة الذكورية وبذاءة مضادة، يرى محمد العباس أنّها «شكل خائب من أشكال سرد الأنوثة بلغة الذكورة»... وما انفجار الصمت النسوي بهذا التدفق سوى تعبيرٍ عن «ليبرالية صورية»، أبعد ما تكون عن المتن.
وفي مقاربة «تسريد الهوية»، ظل النص الروائي السعودي عموماً، يتعامل مع الهوية كمعطى مستقر الملامح، وعلى درجة من القدسية، تتموضع نصياً في نسق مغلق، وحيّز تاريخي متحجر لا يسعف الروائي «بامتصاص وتفكيك المركبات القبلية والفئوية والطائفية»، بمعنى أنّها هويات «عزلوية» متشبثة بتاريخ متخيّل، وناتجة من ذات متوهمة».
في الخط الموازي لاهتمامات الرواية السعودية، تبرز موضوعة الحب كنقطة مركزية في معظم النصوص الجديدة، وكأن الوعي بأهمية الحب مؤشر على النمو الثقافي. إذ إنّ اكتشاف المرأة أو «القارة المفقودة» بات أحد مكونات النص المركزية بإعلاء شأن الجسد، عبر نزعة فردانية احتجاجية تدميرية، تستعيد المكان الأصلي للحدث. وبعدما كانت القاهرة مكاناً نموذجياً للمكاشفة الغرامية، ها هي ليلى الجهني في «الأرض اليباب» تدوّن خبراتها الشخصية في مدينة جدة، فيما يجعل محمد حسن علوان من الرياض عاصمةً للخيبات العاطفية. وهناك أيضاً قصص حب صادمة في أعمال رجاء عالم ويوسف المحيميد، وطيف الحلاج. لكنّ بعضاً من هذه النصوص تجاوز «الحد الفاصل بين أدب البوح الإيروسي وأدب المجون البورنوغرافي، في «كتابة أدائية غير معنية ببلاغة التعبير»، وكأن همها يتمثّل في اختراق التابو أكثر من تأصيل الخطاب السردي للنص. ويستدرك محمد العباس بقوله «من ذلك المنحى الكتابي، تولدت حساسية لغوية جديدة تقوم على جمالية البذاءة اللفظية». وإذا بقاموس فج وسوقي يتسرب إلى هذه النصوص المنشغلة أولاً «بالحنين إلى جسد الآخر، وتأسيس معايير جديدة للدناسة والطهارة».
هذا التطرف الجنسي في الرواية السعودية الجديدة، «ليس مجرد معارضة مبيّتة ضد فكرة العفة، ولكنها فكرة الوجود الواقعي قبالة المتعالي على واقعية الوجود». ويشير العباس إلى أنّ الجسد هنا مجرد موضوع إيروسي، وهو ما يفسّر كثافة الشخصيات المؤسسة على «فائض من الإثارة وخواء المعاني».