رحل قبل أن يصل كتابه المرجعي «تأسيس الإسلام... بين الكتابة والتاريخ» إلى المكتبة العربيّة. ألفريد ــ لوي دو بريمار يعيد فحص بدايات الإسلام عبر تقليب المرويات ومقارنتها

حسين بن حمزة
كتاب ألفريد ـ لوي دو بريمار (1930 ـ 2006) «تأسيس الإسلام... بين الكتابة والتاريخ» (دار الساقي/ رابطة العقلانيين العرب، ترجمة عيسى محاسبي)، يستحق عنوانه. إذْ تقوم منهجية الباحث الفرنسي على تقليب التاريخ والمرويات ومقارنتها بالكتابات والوثائق المبكرة العائدة إلى الفترة نفسها. والهدف إعادة فحص بدايات الإسلام، كما وصلت إلينا من المؤرخين وواضعي السِّيَر النبوية ومصنِّفي الأحاديث، في ضوء المناهج الحديثة، بهدف تأكيد واقعة تاريخية... أو ترميمها، أو إزالة الحشو الإنشائي والمبالغة التخييلية عنها.
في «تأسيس الإسلام... بين الكتابة والتاريخ» (صدرت طبعته الأولى بالفرنسيّة عن دار «لو سوي» ـ 2002)، لا يصل Alfred-Louis de Prémare إلى حدود نقض التاريخ المبكر للإسلام. ما نقرأه دراسة مقارنة تنتمي إلى حقول المناهج السوسيولوجية والتفكيكية والتاريخية الحديثة. الأرجح أن متعة الكتاب حاضرة في معالجة المؤلّف لموضوعه وفق تصور ميكروي أو مينيمالي. هناك عناوين كبيرة ومفصلية لكل فصل، لكن المؤلف يفضِّل العمل على حوادث وفرعيات وجزئيات. إنها أسلوبية تشبه تقنية المسح الميداني التي ينتهجها المؤرخون والإحصائيون بهدف جمع المعلومات ومقارنة النتائج والوصول إلى خلاصات منطقية وعقلانية.

قارن مصادرنا بمراجع سريانية وأرمنيّة وقبطية وإغريقية
يبدأ الكتاب بـ«كتابة سيرة محمد» وينتهي بـ«جمع القرآن». وبين هذين العنوانين، يمتحن المؤلف تفاصيل ووقائع معروفة ومثبتة في المراجع التاريخية الإسلامية. الجديد الذي تُقرأ هذه الوقائع تحت ضوئه هو الكتابات العائدة لمؤرخين وكتَّاب غير مسلمين. أهمية هذه الكتابات الأجنبية أنها أقرب زمنياً إلى الحوادث التي تؤرخها، فضلاً عن كونها لا تعتمد على سلسلة طويلة من الرواة الشفهيين كما حدث لدى المؤرخين المسلمين الذين بدأت كتبهم بالظهور «متأخرة قرنين على الأقل عن سنة 632 ميلادية أي 11 للهجرة، وهي السنة التي اعتُمدت للتأريخ عقب موت نبي الإسلام».
كان المقصود بتعدد الرواة توثيق الروايات، لكن هذه المنهجية لا تُزيل «الطبيعة المشتتة الأصلية للروايات» التي يُكتفى بعرضها «حتى لو كانت متباينة أو متناقضة». كذلك فإن بريمار لا يغفل عن جوانب أخرى تتعلق بالصراعات السياسية التي نشأت عقب وفاة النبي. وبحسب رأيه، «فإن المرويات التي وردتنا عن الفترة الأولى للإسلام لا يمكن اعتبارها «الوثائق التاريخية» الموثوقة عن الفترة نفسها. هي خاضعة لطريقة معينة في القص، والكتابة، والنقل. وخاضعة للسياق الذي تبلورت فيه عقب موت مؤسّس الإسلام، وهو السياق الذي اقتضى «تنقيتها» عبر أجيال من الرواة المتتابعين، وتبعاً لصراعات الأشخاص والتيارات السياسية ». وإذا كان المؤلف يتحدث في الاقتباس السابق عن كتابة السيرة النبوية، فإن الملاحظات التي يُوردها تكاد تنطبق على كل معلومة أو حادثة مؤرخة في فترة تأسيس الإسلام. ولذلك فهو يعتمد على مبدأ مقارنة ما وصل إلينا في المصنفات الإسلامية مع مصادر أدبية وتأريخية غير عربية مثل السريانية والأرمنية والقبطية والإغريقية.
يعترف دو بريمار بكون «المعلومات التي يقدمها المراقبون غير المسلمين مقتضبة». إلا أنه يؤكد ضرورة أخذها في الاعتبار، لأن «بعض هذه المعلومات معاصرٌ للأحداث، على عكس واقع الحال في المصادر الإسلامية». وفق هذا السياق المنطقي، تحضر كتابات مؤلفين «تُوصف بأنها خارجية بالقياس إلى المصادر العربية»، فنقرأ روايات وآراءً لتوما القسيس الذي كتب عام 640 ميلادية، أي بعد ثماني سنوات من وفاة النبي. ونقرأ لسيباوس الأرمني الذي كتب عام 660 عن الغزوات العربية الأولى في منطقة أرمينيا. وهي تواريخ «لا يمكن لأي مصدر إسلامي عن الفتوحات أن يدّعي كل هذا القرب من زمن الأحداث». يستثمر المؤلف تلك الكتابات، إضافة إلى مراجع أجنبية حديثة سبق لمؤلفيها أن تناولوا الحقبة نفسها، لعقد مقارنات تنتهي بتساؤلات وشكوك في وقائع معينة.
لعل لذّة قراءة الكتاب في الضاد تكمن في كون القارئ العربي يرى جزءاً من تاريخه بعين غريبة. هذا ما فعله المؤلف الذي عاش ودرس في المغرب، ثم في القاهرة، وانتسب فترة إلى الرهبنة الفرنسيسكانيّة. عُُدّ مرجعاً في فرنسا في شؤون الثقافة العربيّة والدين الإسلامي، وكان أستاذاً بارزاً في «جامعة بروفانس»، وتوفي قبل أن تصدر الترجمة العربية لكتابه.