«ملك الراي» يغنّي الأحد في «قرطاج» التونسيّة

الفنان الذي يعتبر اليوم أشهر ممثلي أغنية «الراي»، عاد في أسطوانته الأخيرة Liberté، إلى جذور هذه الأغنية المتمرّدة، سياسيّاً وأخلاقيّاً. بعد «رياض الفتح» في الجزائر العاصمة، ثم «مهرجان المتوسّط» في الحسيمة (المغرب)... صاحب «عايشة» على موعد مع الجمهور التونسي في المدرج الروماني الشهير لـ«مهرجان قرطاج». هنا استعادة سريعة لتجربته الاستثنائيّة

الجزائر ــ عثمان تزغارت
في ألبومه الجديد «ليبرتيه» (AZ ــــ باريس)، يعود نجم أغنية الراي الجزائري، الشاب خالد، إلى بداياته «على طريق الليسيه» ليستعيد ألق غناء الشيخات البدوي الذي خرج راي الشباب من معطفه، أواخر السبعينيات. وإذا بـ«ملك الراي»، يحقّق أحد أنضج أعماله، بعد عقدين من التيه وراء أوهام العالمية التي أدّت إلى تعليب أغنية الراي، واختصارها بنوتات نمطية توافق هوى العولمة، فيسقُط بذلك البعد التمردي، والمحتوى الاحتجاجي اللذين صنعا شهرتها. قبل أن تغزو موسيقى الراي الساحة الأوروبية، لتقفز إلى العالمية، بعد النجاح الذي حقّقته أغنية «دي دي» من ألبوم «خالد» (1992)، كان هذا الصنف المتفرّع من الأغنية البدوية النسائية لمناطق الغرب الجزائري (أبرز رائداتها الراحلة شيخة ريميتي) عانى 20 عاماً من الحظر والتهميش. ذلك أن الجيل الأول من «شبان» الراي (بلمّو، الشاب خالد، فرقة «راينا راي»، الشاب حميد...) أشهر هذا الغناء سلاحاً في مواجهة فساد النظام واستبداد الحزب الواحد الحاكم (جبهة التحرير الوطني). ولم تقتصر تلك الثورة التحديثية التي أحدثها جيل «الشبان» على الجانب الموسيقي، بل أدخلوا على الراي الآلات النحاسية، كالساكسوفون (بلمّو) والإلكترونية، كالسانتيتايزر... واستعاروا النبرة الفجّة التي اشتهر بها غناء «الشيخات» منذ الخمسينيات، ليطعّموها بنفس من التمرد السياسي والاجتماعي. ما جعل الراي يتحوّل إلى لسان حال الثورة الشبابية في جزائر الثمانينيات، عبر تيمات الرفض والتمرد على القبضة الحديدية للنظام المتسلط، والتحرر من القيود الاجتماعية والدينية والجنسية.



مقطع من موال لأغنية «ليبرتيه»








بعد انتفاضة الشباب عام 1988، خرج الراي من الهامش الذي نشأ فيه، لينال الاعتراف الذي يستحق من المؤسسات الثقافية الرسمية في الجزائر. وإذا بالسلطات، خلال فترة «التفتح الديموقراطي» مطلع التسعينيات، تتبنى الراي رسمياً. ما أسهم في منحه طابعاً أكثر احترافية مهّد لوصوله إلى العالمية. لكنّ تلك الأبوية تمخّضت عن فخّ سياسي أُريد عبره تدجين «شبان» الراي، واستعمالهم لضرب الأغنية السياسية البربرية، ذات التوجه اليساري. إلا أن سنوات

عبّر الراي عن الثورة الشبابية في الثمانينيات، ثم وجد نفسه في مواجهة الجماعات الإسلامية
الإرهاب (1993 ــــ 1999)، سرعان ما أعادت إلى الراي روحه المتمردة، فتحول إلى لسان حال الشباب الجزائري المتعلق بالحياة ومُتعها، في مواجهة القبضة الحديدية التي سعت الجماعات الإسلامية لفرضها على البلاد. وقد دفع «شبان» الراي ضريبة غالية بسبب تلك المواقف الطليعية الشجاعة، فاغتيل الشاب حسني في وهران، واضطر رموز الجيل الأول من نجوم الراي إلى الاعتزال أو المغادرة إلى المنفى كخالد ومامي والثنائي صحراوي وفضيلة...
مرة أخرى، وعلى غرار الدور الريادي الذي لعبه مطلع الثمانينيات في وضع أغنية الراي لأول مرة في الواجهة، استطاع الشاب خالد أن يصنع للراي، في منفاه الباريسي، شهرة جديدة، مراهناً على موهبته الموسيقية التي خوّلته المزاوجة بين مختلف الطبوع، فاستلهم ألحانه من روح «الريغي» المتمردة، وشجن البلوز، وصخب الروك إند رول. وإذا بهذه «الوصفة الهجينة» التي صنعت ثورة الراي الأولى في السبعينيات، تتمخض عن «ثورة ثانية» وضعت الراي في طليعة الأغنية الشبابية عبر العالم. حتى أن المشرق العربي، اكتشف الراي، منتصف التسعينيات، واستورده بوصفه موضة غربية رائجة، بعدما صمّ عنه آذانه، طيلة عقدين، مسلّطاً عليه فوقية «المركز» وتعاليه.
لكن هذا النجاح كانت ضريبته غالية. إذ وقعت غالبية شبان الراي في شراك دور الأسطوانات الكبرى («يونيفرسال» تحديداً) التي سعت لتجعل من «الراي» صنفاً أوروبياً خالصاً، لتسهيل استهلاكه على الأذن الموسيقية الغربية. وسقط أشهر رموز الراي (خالد، مامي، فوديل...) في هذا الفخ الذي أوهموا بأنه مفتاح العالمية. وحده رشيد طه، حاول الصمود أمام هذا التوجه، متشبثاً بالهوية الهجينة الأصلية للراي مضيفاً إليها تطعيمات من الموسيقى الأفريقية السوداء التي صنعت شهرة فرقته الأولى Carte de séjour. فيما انجرفت غالبية مغني الراي نحو الصنف النمطي المُعولم. وإذا بالنتيجة تأتي عكسية، فشهد الراي نكسة جعلت موجة الراب والـ R’N’B تهزمه حتى في عقر داره في الجزائر. وبدأت شركات الأسطوانات العالمية تنفض عنه، معتقدة أنه بات موضة قديمة.



مقطع من أغنية «يامينة»








وما فاقم التأزم أن التلاعبات السياسية حاقت بالراي، بعد بلوغه العالمية، فانجرّ الشاب مامي، قبل سقطته المدوية، إلى تأييد حملة ترشيح الرئيس بوتفليقة لولاية جديدة، رغم أنف الدستور الجزائري الذي يحدّد المدة القصوى بعشر سنوات. وانضم فوديل إلى جوقة المؤيدين لساركوزي، ما جعل شبان الضواحي يرشقونه بالطماطم، خلال حفلاته في فرنسا. أما شابة زهوانية، إحدى الوجوه الأكثر تمرداً في الحقبة الثمانينية، فقد وصل بها الأمر إلى حدّ أداء الحج، نيابة عن الرئيس الجزائري، خلال فترة مرضه، قبل عامين!
وحده الشاب خالد، لاذ بالصمت 5 سنوات، حيث عصفت به مشاكل قضائية شائكة. وزاد الطين بلة، أنّ بعض تصريحاته ألّبت الإستبلاشمنت الفني الأوروبي، حيث صرّح بأن السبيل الوحيد للتضامن مع فلسطين هو رفع الكلاشنيكوف في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة.

■ 10:00 مساء الأحد 9 آب (أغسطس) الحالي ــــ «مهرجانات قرطاج» في تونس. للاستعلام: للاستعلام: 0021671241901
www.festival-carthage.com.tn

من «موسيقى العالم» إلى نداء «الحريّة»



لم ينحن الشاب خالد للحملات التي طالته في فرنسا والترويج بأن «الملك فقد تاجه». أدرك صاحب «أنسي.. أنسي» (1984) أنّ الخلاص يكمن في العودة إلى جذور الراي الأصلية.


مقطع من أغنية للشيخة رميتي







ألبومه Liberté (حريّة) كرّس هذا التوجه وها هو ابن حي «سيدي الهواري» الشعبي، يستعيد أصالة الأغنية الوهرانية، ليزرع في الراي مجدداً شهوة التمرد ويعيد ألق البدايات. هو يراهن على مقدراته الصوتية. وإذا بالراي يعود «أغنية صوتية» عمادها تنوع وتمازج مستويات الأداء الصوتي وأساليبه. ما يعد تحية غير مباشرة إلى شيخة رميتي التي ظلت حتى رحيلها عام 2006، ترفض أن ترافق صوتها الأسطوري أي «شوائب» موسيقية أخرى، عدا الناي والبندير (الطبلة التقليدية). من ذلك المنبع، يغرف خالد ليقدّم عبر أغنية «بويا كي راني» رائعة تضاهي في تألقها «صحاب البارود» (1983) التي تصنف كأشهر أغنية في مساره. كأنّه يريد التكفير عن خطايا السنوات الـ20 الماضية. لذا، أعاد التوزيع الموسيقي لأشهر أغاني الحقبة التسعينية («صُغري»، «سبابي أنتيا»...). ولا يكتمل الحجّ الرمزي إلى منبع البدايات دون استعادة الكلاسيكيات («رايكم»، «يامينة»...) التي جاءت مطعّمة بنوستالجيا مشوبة بالشجن. ومنحها أداؤه قراءات موسيقية متجددة، بعضها يضاهي الثورة التحديثية التي أدخلها البربري الراحل لوناس معطوب على «أغنية الشعبي» التي طعّم أصولها الأندلسية بالطبوع البربرية. وها هو خالد يستنسخ «المعجزة الهجينة» ذاتها، عبر تطعيم كلاسيكيات الراي بفن «الغناوة» الأفريقي العريق.

أنا العاشق الممحون/ شَرّّاب لـ Alcool/ أنا منّك ما نبراش!
كل ما سبق يجعل الألبوم منعطفاً مرشحاً ليفرز تأثيرات تعيد إحياء أغنية الراي. لكن خالد حرص على أن يكون الموقف السياسي حاضراً. فأدرج أغنية «زابانا»، إحدى كلاسيكيات الراي المهداة إلى البطل الوهراني أحمد زبانا، أول ثائر جزائري نُفّذ فيه حكم الإعدام عام 1957 (سُجّلت لتكون أغنية جنيريك فيلم سعيد ولد خليفة عن زبانا). كما أدرج أغنية Même pas fatigué التي أداها عقب انتفاضة أحياء الضواحي الباريسية قبل 3 أعوام.
الشاب خالد الذي نجح هنا بأن يشعل فتيل «ثورة ثالثة» في مسار الراي، لم يتعب من التغريد خارج السرب. أثبت أنّه ما زال الفنان المتمرد على الأعراف الذي يتحدى النزعة الطهرانية التي تحاول الحركات الأصولية فرضها على بلاده، صادحاً: «أنا المغبون/ سبابي أنتيا/ أنا العاشق الممحون/ شَرّّاب لـ Alcool/ أنا منّك ما نبراش!». كأن ذلك رجع صدى للقنبلة التي فجّرها عام 1984، في عزّ الحملة الطهرانية التي أطلقتها جبهة التحرير لمغازلة الأصوليين، حين غنى «درنا لـAmour في برّاكة مرنكة»! ووسط محاولات الأصوليين استقطاب نجوم «تائبين» لأداء أغنية راي ملتزمة (بالمعنى الديني) ذات نبرة أخلاقوية Moralisatrice فاقعة، تكتسي الروح المشاكسة لدى نجم من مصاف خالد أهمية أقوى من أي مضمون سياسي مباشر.