الرباط ـــ محمود عبد الغنيدرويش الذي قرأه جمهور واسع من المغاربة، هو بحقّ مخترع التركيبات الشعرية الجديدة. هو ليس صاحب قصيدة مؤثرة فحسب، بل مهندس جمالية خاصة وقوية. وهو بذلك أسهم في تشكيل وعي معين بالشعر وبالنثر أيضاً. وما هذا التأثير القوي إلا لأنّه يعمل بدقة على قصيدته. والدقة هنا هي بالمعنى الذي حدّده كالفينو: تصميم محدّد ومحسوب، استحضار صور بصرية صافية، مؤثرة وخالدة ولغة دقيقة سواء لجهة المعجم أو تحقيق الفوارق الدقيقة للفكر والخيال.
وفي وقت كان فيه معظم الشعراء يستعملون اللغة بشكل عشوائي ومهمل، كان درويش يعتمد على أدواته الثلاث تلك لكتابة قصيدة دقيقة، تطرح قضية أكثر دقة تتصل بالذات والوطن. هنا بالضبط كانت قصيدته تستجيب لمبدأ الوظيفة. وجد الشعراء المغاربة فيه شاعراً يترك أدواته في قصيدته، فالتقطوا تلك الأدوات وبدأوا يشكّلون بها قصيدتهم.
ليس هناك أخطر من شاعر يترك أدواته وراءه. لاحقاً، بدأ درويش يخفي أدواته، ليس بنيّة مواراتها عن الآخرين، بل لأنه وصل إلى السنّ التي ينزع فيها الإنسان إلى إخفاء كل شيء... إلى درجة أنّه بدا كأنه يخفي حتى نحو اللغة التي يكتب بها. في هذه اللحظة بالضبط، أصبح طلاب الكليات وهواة الشعر في حيرة من أمرهم، كيف يمشون على خطى شاعر لم يترك أثراً وراءه؟ حدث هذا خصوصاً مع المجموعات التي نشرها درويش لدى «دار توبقال» في المغرب: «ورد أقل»، «أحد عشر كوكباً»، «أرى ما أريد» ... انطرحت بإلحاح مشكلة: كل مَن يقلِّد هذا الشاعر بالاعتماد على أدواته يبدو كمن يضع على رأسه شعراً مستعاراً، يثير الشفقة والسخرية في آن.