حسين بن حمزةهل كتب محمود درويش قصيدة النثر؟ الجواب هو: قطعاً، لا. مع ذلك، ظهرت مقالات، بعضها شديد الوجاهة، بعضها بتوقيع الناقد صبحي حديدي أو الشاعر أمجد ناصر، اقترح أصحابها منح جنسية قصيدة النثر لدرويش، بناءً على نصوص ومقاطع نثرية ضمَّنها في عدد من إصداراته الأخيرة، وخصوصاً «أثر الفراشة» المنشور تحت صفة «يوميات»، و«في حضرة الغياب» تحت صفة «نص»، إضافةً إلى مقاطع في ديوان أقدم هو «أحبك أو لا أحبك».
المشكلة أنّ درويش لم يسمِّ تلك النصوص قصائد نثر، ولو أراد لفعل ذلك. هنا، ثمة سؤالان متعاكسان لا بدّ من إثارتهما. الأول: لِمَ لمْ يبادر درويش إلى خلع صفة «قصيدة نثر» على ما كتبه؟ والثاني: لِمَ يتبرع سواه بفعل ذلك؟ للإجابة عن السؤال الأول يمكننا العودة إلى تصريحات يؤكد فيها الشاعر أنّه كتب نثراً لا قصيدة نثر. في حوار طويل مع عبده وازن، قال: «أكتب نثراً على هامش الشعر أو أكتب فائضاً كتابياً أسمّيه نثراً»، وأيضاً: «ما دمت أكتبُ نثراً، فأنا أكتب النثر من دون أن أسميه قصيدة». وفي موضع آخر، أكَّد: «أنا من الشعراء الذين لا يفتخرون إلا بمدى إخلاصهم لإيقاع الشعر. أحب الموسيقى في الشعر. إنني مشبع بجماليات الإيقاع في الشعر العربي، ولا أستطيع أن أعبِّر عن نفسي شعرياً إلا بالكتابة الشعرية الموزونة».
من الواضح أن درويش فرَّق بشكل حاسم بين التعبير عن نفسه «شعرياً» وبين التعبير «نثرياً». هو شاعر في الشعر، وناثر في النثر. فلماذا نكتِّبه قصيدة النثر عنوةً؟ كان ناثراً موهوباً، ولم يكن يضيره أن يكون ذاك الناثر الموهوب إلى جانب كونه شاعراً مرموقاً. كان صاحب «جدارية» حريصاً على عدم الخلط بين الأمرين، لكنه، في الوقت عينه، لعب في السنوات التي سبقت رحيله على فكرة النثر عبر رهانٍ يقوم على إثبات براعته النثرية داخل قصيدته الموزونة. أراد أن يصحح علاقته الشاقة والمُساء فهمها مع قصيدة النثر، لكن ليس بكتابتها بل بالإفادة من خصوصياتها ومناخاتها. صادق قصيدة النثر لكنه لم يقع في غرامها. أغلب صداقاته الأخيرة كانت مع شعراء نثر. لقد اعترف محمود مراراً بأن ما يُكتب من قصائد نثر في العربية أكثر جودةً من أخواتها التفعيليات. استثمر علاقات النثر بذكاء شديد. أخفى الوزن في طيَّات الإيقاع الخافت ومجاهله. أدار ظهره للصوت العالي والرمزيات المباشرة والغنائية المفرطة. في مستهلِّ ديوانه «كزهر اللوز أو أبعد»، استعان بتعبير أخَّاذ لأبي حيان التوحيدي: «أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظمٍ كأنه نثر، ونثرٍ كأنه نظم». أراد أن نعامل قصائده الأخيرة باعتبارها نثراً مكتوباً بالوزن. فرح حين اعتبر بعضُنا أن «في حضرة الغياب» قصيدة نثر طويلة. لعب الشاعر في ملعبنا النثري، لكنه لم يغادر ملعبه الفعلي ولم يبدِّل قميصه الإيقاعي بأيٍّ من قمصاننا النثرية.
كل هذا يقول لنا إن درويش أراد استيعاب النثر في شعره، ولم يقصد كتابة قصيدة النثر. ظل «النثر جار الشعر ونزهة الشاعر» وظل يمارس «اختلاس النظر إلى بحبوحة النثر» وفق تعبيره. وهنا الإجابة عن السؤال الثاني: لماذا ننسب بعض «نثريات» درويش إلى «قصيدة النثر»؟ الجواب أن درويش رغب أن يحمل بطاقة عضوية استثنائية أو فخرية في «نادي قصيدة النثر». أي أن تشفع له نثرياته بحيازة هوية «قصيدة النثر». ما حدث أن شاعراً بحجم درويش وكبريائه الإيقاعية طرق باب «قصيدة النثر»، فكان لا بدَّ لشعرائها أن يفتحوا ويرحّبوا به. خدعنا محمود درويش، وانطلت علينا الخدعة.