محمد خيرلم يتح الزمن لمحمود درويش أن يشيخ مع قصائده أو بها، فلم يهبط منحناها ولم تبدُ أسطره الأخيرة ابنة تعب، بل ظلت شابة في عنفوانها، حتى وهي تناجي الموت وتجادله. كانت القصائد الأخيرة لكنها ـــــ مع ذلك ـــــ لم تكن تشبه قصائد النهايات، بل تميزت بخصوبة وطزاجة لعلّها السبب في ذلك الشعور المتناقض الذي سكن كل من فوجئ بالرحيل. إذ امتزج الحزن بالطمأنينة في تركيبة نادرة، الطمأنينة لأنّ ذلك الشاعر الكبير منحنا الكثير من الشعر، حتى إننا لن نستطيع أن نفتقده، والحزن لأن ذلك العنفوان المتبدي حتى السطر الأخير، كان ينبئ بالمزيد من القصائد والصور التي وقفت تنتظر دورها فلم تسنح لها الفرصة.
كان شاباً إلى النهاية، وربما لهذا لم يكن له تلاميذ، بل مقلّدون وغيارى وباحثون عن شفرة امتلكها درويش وحده. يندر ـــــ خاصة في التراث العربي ـــــ ألا يكون لشاعر بهذا الحجم مدرسة،
تجربة حافلة بالدروس التي لا يستطيع تطبيقها الآخرون
حتى لو ظن بعضهم أنّها موجودة، لكن عباءة الشاعر لم تنجب سوى نسخ صغيرة ذابت فيه. أما بعدما وضعت النقطة الأخيرة في نهاية السطر الأخير للقصيدة الدرويشية الأخيرة، فلا ورثة ولا مجددون، بل طرق أخرى مختلفة تماماً يتقاطع أصحابها مع درويش في أسئلته الإنسانية، لا في لغته. يفيدون من تجربته معرفياً، لا أسلوبياً.
فرادة درويش أنّه ارتدى مجده ثياباً كلاسيكية في مقهى عصري، صعدت قصيدة النثر العربية ونمت وتطورت حول درويش في كل مكان، فلم تمسّ منه ولم يمسّ منها، ولم يلتقيا في موعد، لا حبّ ولا كراهية، فقط بضع كلمات هنا أو هناك من لزوميات الإجابة عند السؤال. كأنه وتلك القصيدة الحديثة عالمان منفصلان لا يرى أحدهما الآخر، فلا يأخذ واحدهما من مكانة الثاني، لا يحاربه ولا يخوض معاركه، لا يزيده ولا ينقص منه.
لأنه لم يكن مدرسة، فإن محاولة استخلاص درس منه ستنتج حلولاً غريبة. صحيح أنه برهن على اتساع الشكل القديم لمعانٍ جديدة، وعلى ازدهار الصورة الشعرية في عالم الصورة البصرية، وعلى بقاء الشاعر رمزاً وبقاء الشعر نصاً مقروءاً في الوسع. ولكن مشكلة كل تلك «الدروس» أنّها ارتبطت بدرويش نفسه، ولم تبرهن بعد على قابلية إعادة التطبيق في واقع تضيق فيه مساحة قراءة الشعر على رغم اتساع السوق، وغزارة الأدب.
وما زال الشعراء الجماهيريّون الآخرون في معظمهم لا يليقون بأن يكونوا زملاء درويش، بل يداعبون في الشعر أجهله، ويلجأون إلى الكلمات التي تكملها آذان المتلقّين تلقائياً لكثرة ما سمعوها من قبل... أما في القصيدة الحديثة، فتضيق دائرة المتلقين حتى تكاد تقتصر أحياناً على كتّاب تلك القصيدة أنفسهم. وهي حالة لم يغيّر منها كثيراً تقدم وسائل النشر والاتصال، وزادت من تدهورها مسابقات الشعر التلفزيونية التي أكملت الجريمة المعرفية التي بدأتها مناهج التعليم. ومع ذلك، تواصل القصيدة الجديدة ازدهار «الكتابة» لا الانتشار. وفي خضم صراع كتابها ضد حراس الماضي، يستثنون محمود درويش من غضبهم، لأنّه أشعر من أن يعاديه أحد!