h1>نجيب سرور سخر من «مدلل فندق شبرد»كان معروفاً في أرض الكنانة قبل أن تطأها قدماه، ويتلقّفه أحمد بهاء الدين ثم محمد حسنين هيكل. لكنّ «ثورة» السادات قذفت به إلى بيروت

القاهرة ـــ محمد شعير
لو لم تكن شاعراً فماذا تتمنّى أن تكون؟ أجاب فوراً: رساماً. الإجابة لم تكن هروباً من سؤال يعدّه بعضهم «محرجاً» بقدر ما تكشف الرغبة الدفينة التي تسكن محمود درويش. رسام. لكنّ الرسم مكلف للعائلة. الأب يخرج صباحاً ليعمل في المحاجر، ولا يملك ثمن الألوان وكرّاسات الرسم، فضلاً عن تكاليف الدراسة. كبت الصغير هوايته وأخبر أستاذه: «أنا أكتب الشعر». صدّق الأستاذ وطلب منه أن ينشد في طابور الصباح إحدى قصائده.
بالفعل، قرأ الصغير قصيدته الأولى على زملائه. قصيدة عن «طفل يعود إلى قريته، فلا يجد من بيته سوى الأطلال، وأرضه سرقت... ولم يعد يملك شيئاً سوى الغربة. في اليوم التالي، جاء عساكر الاحتلال للتحقيق مع محمود الذي لم يكن يتجاوز الثانية عشرة... شعر بالرعب لكنّه اكتشف أيضاً أن الشعر سلاح قوي، يخشاه الغزاة والطغاة! وفي تلك اللحظة فقط، قرر أن يكون «شاعراً»، يداعب أساتذته بالقصيدة، كما فعل عندما كتب إلى معلمه شكيب جهشان: «ضحك القرنفل فاستبد بخاطري، وأهاج شوقاً للجمال العابر».
هل قابل الشاعر عبد الناصر في موسكو؟
وبدأ ينشر ما يكتب في الصحف المحلية. وعندما وصل إلى المرحلة الثانوية، كما يروي شقيقه أحمد، «صار ضيفاً على المهرجانات التي كان يقيمها الحزب الشيوعي في مناسبات مثل الأممية وأول أيار والانتصار على النازية». وفي هذه المناسبات، كان محمود يذكر كثيراً مفردات الحنين والعودة واللاجئين، وهي المفردات التي ستكون الأساسية في شعره. وقد تسبّبت واحدة من تلك القصائد بأن يفقد والده عمله لتصبح العائلة كلها بلا مصدر دخل! هذه الحكايات البسيطة تريح النقاد الباحثين عن «المرحلة الأكثر تأثيراً» في قصيدة درويش. هل كانت القاهرة أم بيروت أم باريس؟
كل الوقائع تؤكد أنّه كان «نجماً» في سماء القصيدة الفلسطينية قبل أن يترك فلسطين، وكان نجماً في القاهرة قبل أن تطأ قدماه المدينة، وكثيرون هم أصحاب الفضل في ذلك. ترى الكاتبة صافيناز كاظم أنّ الراحل أحمد بهاء الدين هو مَن احتضن درويش في البداية، عند مجيئه إلى القاهرة... بل قبل مجيئه، منذ بدأ ينشر مقالات عن شعر محمود درويش. وكانت أولاها في «المصور» (2 أيار/ مايو 1967) بتوقيع غسان كنفاني: «محمود سليم درويش شاعر المقاومة الفلسطينية». تناول كنفاني قصيدة «بطاقة هوية» التي باتت معروفة أكثر بأوّل سطر فيها «سجل أنا عربي»، وختم معتبراً أنّ «درويش يمثل علامة طليعية بين رفاقه الشعراء العرب في الأرض المحتلة، وقد وضعه شعره الحاد في حرب مع العدو، حورب فيها برزقه أولاً، ثم أبعد عن قريته، ثم وضع في السجن، ومن داخل ذلك السجن كتب أجود شعره وأكثره عنفاً وتحدياً».
ولاحقاً، كتب رجاء النقاش كتابه «درويش شاعر المقاومة» الذي صدر عام 1969. وبعد ذلك باتت الحكاية معروفة: حين وصل درويش إلى القاهرة لم يكن شاعراً مجهولاً. كان ذلك في شباط (فبراير) 1971 بعد رحيل عبد الناصر، علماً أنّ الكاتب محمد حسنين هيكل يصرّ على أن درويش وعبد الناصر التقيا شخصيّاً. وهو أمر لم ينفه شقيقه أحمد، الذي أكّد أن «موسكو شهدت لقاءً بين الشاعر والزعيم». وبالفعل، زار عبد الناصر العاصمة الروسية للعلاج في الفترة التي كان محمود مقيماً فيها.
في القاهرة التقى درويش الصحافي عبد الملك خليل، وانتقل مباشرةً إلى «فندق شبرد» للإقامة، ثم إلى «إذاعة صوت العرب» حيث صدر قرار بتعيينه، وطلب منه مدير صوت العرب في ذلك الوقت محمد عروق أن يسافر مع المذيع عبد الوهاب قتاية إلى الأقصر وأسوان لأيام. وبالفعل سافر درويش لمشاهدة الآثار المصرية. وحكى قتاية عن هذه الرحلة أنّ أكثر ما أسعد درويش أنّ «محافظ أسوان رتب لنا زيارة إلى مدرسة نائية فى أطراف المحافظة وزرناها وذهبنا إلى أحد الفصول حيث راح الأطفال ينشدون إحدى قصائد درويش بألحان مصرية، فإذا بالدموع تكرّ على وجنتي الشاعر».
ما إن وصل درويش من تلك الرحلة حتى أقيم له مؤتمر صحافي أعلن خلاله أنّه برحيله إلى القاهرة، لم يرحل عن «المعركة»، وأنه غيّر «موقعه» ولم يغيّر «موقفه»، وأن الخطوة التي اتخذها جاءت «ليضع حقيقة ما يعانيه أهله في فلسطين أمام الرأي العام». ثم اصطحبه الشاعر عبد الرحمن الأبنودي وصافيناز كاظم في رحلة عبر مدينة القاهرة التاريخية، سجّلا وقائعها في مجلة «المصور» التي عُيِّن فيها لشهور قبل أن يطلب منه محمد حسنين هيكل الانتقال إلى «الأهرام».
هناك، بدأ درويش ينشر قصائده ومقالاته (لم تجمع حتى الآن في كتاب). وكانت إقامته في القاهرة مثار جدل بين الشعراء: رحّب به صلاح عبد الصبور واحتفى بأعماله، وكان من أوائل الشعراء الذين كتبوا عنه عام 1968 مقالة بعنوان «القديس المقاتل» نشرتها مجلة «الهلال». وهناك شعراء آخرون، كما تقول صافيناز كاظم، أيّدوا منطق نجيب سرور الساخر: «اشمعنى محمود درويش مدلل في فندق شبرد، ما احنا كمان شعراء الأرض المحتلة»!
لم يمكث درويش طويلاً في القاهرة. غادرها بعدما تغيرت الأحوال وقام السادات بثورة 15 مايو، أو ما سمّاه «ثورة التصحيح»، ليجد الشاعر أن أصدقاءه أصبحوا في السجون. هكذا انتقل للاستقرار في بيروت، حيث ستغتني تجربته الشعريّة، وتعيش قصيدته تحوّلاتها الحاسمة الأولى.