خليل صويلحكنت كمن يدخل غرفة في غياب صاحبها، ويفتش محتوياتها، ويتلصّص على أسرار الغريب، كي يألف جدران الغرفة، وأدراج خزائنها، وألبوم الصّور، ورائحة السرير، ومرآة الحمّام. المرآة التي اعتادت وجه صاحبها، وخبّأت تضاريس وجهه برغوة معجون الحلاقة، والمواعيد الطارئة، وكمائن المجاز. كنت أنصت إلى الموسيقى تنبعث من مكان خفيّ في الحجرة. من أين يأتي صوت الكمنجات؟ هل غادر المايسترو قبل قليل تاركاً سلَّمه الموسيقي في أحد الأدراج، ولم يتمكن من إكمال النوتة إلى آخرها؟ ها هي آثار أصابعه عالقة على مقام النهوند، وعلى الكمنجات الثكلى. «الكمنجات تبكي مع الغجر الذاهبين إلى الأندلس» و«الكمنجات تبكي على زمنٍ ضائع لن يعود» في حركتين متضادتين في الذهاب والإياب. سأجد الآلات الموسيقية، وأقواس الأوتار مبثوثة في نصوصه القديمة كما في بروفة لا تكتمل أبداً. ها هي «فانتازيا الناي» تتسرب من «هي أغنية، هي أغنية» كوجعٍ قديم في الضلوع. سيتكرر الناي مثل لازمة إلى نهاية القصيدة، وسيباغته حنين الشاعر إلى عشبه الأول «هل حلمنا يا ناي، كنز ضائع، أم حبل مشنقة؟».
يوزّع محمود درويش آلاته ومقاماته الموسيقية في متن قصائده كخطٍ موازٍ للإيقاع الشعري، وإن فارقت المعنى أحياناً، كما في قوله «هذا السراب يؤدي إلى النهوند». مقام النهوند «المينور» يسمى مقام الغبطة، فكيف اجتمع السراب مع الغبطة في معنىً واحد؟ لا يهمّ ما دام الشاعر مأخوذاً بالإيقاع. الإيقاع الذي يأخذه إلى غير مقاصده، حتى إنّه لفرط افتتانه بالإيقاع، يصل إلى التجريد الخالص الذي يتجاوز البلاغة إلى مستوى السماع والتطريب. مايسترو ينسى النوتة التي أمامه، ويذهب إلى أقاصي التوحّد والارتجال في حركاتٍ مباغتة. سنلتقط أسباب هذا الافتتان اللغوي في عبارةٍ لاحقة، تبدو كما لو أنها بيت القصيد «وددتُ لو أجد الإيقاع، لو أجدُ. والعزفُ منفردُ».
تراوح مقامات صاحب «لماذا تركت الحصان وحيداً» بين العزف المنفرد على آلة وترية، والحواريات السيمفونية. ناي، أو غيتار، أو كمنجة، في قصائد الألم الشخصي المبكر، ومكابدات الذات في وحشتها وعريها وشهواتها، وحوار آلات مختلفة في تراجيديا التيه الفلسطيني. يقول في المقام الأول: «لا أحد يرى أثر الكمنجة فيك»، و«انتظريني لئلا تفرُّ العنادل منّي فأخطئ في اللحن»... فيما تتجاور في المقام الثاني أصوات وإيقاعات ونبرات في نظام موسيقي يفصح عن حجم المأساة، وتشظّي أحوال بلاد منهوبة.
هل سعى محمود درويش إلى كتابة «إلياذة» فلسطين، و«أوديسّة» الشّتات؟ في الواقع سنلمح في نصوصه الملحمية، طروادة محاصرة، وأثينا مفجوعة، إضافةً إلى أندلس مفقودة. تمتزج الأسطورة بالخراب، والنفي، والحنين، وتأمل الكارثة في جوقة منشدين ولحنٍ جنائزي. هوميروس آخر يسجّل تفاصيل تراجيديا الشتات، أو إنّه «خليط من أثيني حالم، وإسبارطي تائه في شعاب التراجيديا» وفقاً لما يقوله نزيه أبو عفش عنه، ليصير نصّه أقرب إلى سوناتات باخ في اكتمالها.
في قصيدة «طباق» التي أهداها إلى إدوار سعيد، سيضاف «البيانو» إلى معجمه الموسيقي، حيث «إدوار يصحو على جرس الفجر، يعزف لحناً لموتسارت»، وستعبر القصيدة شوارع نيويورك، لتتوقف أخيراً عند «قدّاس جاز». لكن الكمنجات وحدها، ستبقى مفردة أثيرة تتكرر على الدوام بمقامات إيقاعية مختلفة «أشيّعُ نفسي بحاشية من كمنجات إسبانيا، ثم أمشي إلى المقبرة» كأن ظلال لوركا القتيل ما زالت تطارده، في أندلسٍ ضائع ومضيّع.
في «جدارية»، سيبني كونشيرتو أصوات، محاوراً أوركسترا الموت في أربع حركات أساسية، تنتهي بهزيمة الموت في الحركة الأخيرة على وقع نايٍ وكمنجة «وامشوا صامتين معي على خطوات أجدادي، ووقع الناي في أزلي»، و«وأبصرُ في الكمنجة هجرة الأشواقِ من بلدٍ ترابي إلى بلدٍ سماوي». كما سيحاور طرفة بن العبد والمعرّي ورينيه شار، في إيقاعات متفاوتة، في العلوّ والهبوط. وفي الصّخب والصمت، وفي البصر والبصيرة.
كان مرسيل خليفة أول من اكتشف البعد الإيقاعي المنجز نغمياً، في قصائد محمود درويش، فكانت أسطوانته «وعود من العاصفة» بمثابة تمرينات أوّلية على المزاوجة بين نصّ غاضب، وموسيقى تتلمّس قوة الهتاف والنبرة العالية، وصولاً إلى «يطير الحمام». التجربة التي توغلت في مسارب بعيدة، ونبشت ما هو مضمر في متن العبارة. فيما اشتغلت فرقة ثلاثي جبران على نصوص صاحب «سرير الغريبة» بارتجالات على العود تواكب الجملة الشعرية في فسحتين متناوبتين: الإلقاء الصوتي للشاعر مرةً، وجنون العود مرةً تالية، في حوارية عميقة بين ثلاث آلات، تفصح عن نبرة إيقاعية مشبعة لطبقات النص. لكن من يدوزن الإيقاع اليوم، في غياب صاحبه؟ هناك من عبث في المسوّدات.