أنا الآن على ظهر «عمارة إميل توما» في شارع عبّاس بحيفا. سطح العمارة تابع للبيت الصغير الذي قضيتُ فيه ليلتي مع أصدقاء. تحتنا شقة الشاعر الشاب محمود درويش في ستينيات القرن الماضي! لم يكن يسكنها وحده، اعتاد تقاسم الشقق مع أصدقائه، بسبب الإيجار على الأرجح. المصادفة وحدها قادتني إلى هذه العمارة من دون بقية بيوت حيفا. إذ قرر أحد الأصدقاء أن تكون بقية السهرة عنده.بمجرد أن ركنتُ السيارة في آخر شارع عبّاس ومشينا إلى البيت الرقم 45، وقبل أن نصعد الأدراج، قيل لي «هنا كان يسكن محمود درويش، في الطابق الثاني. هذه العمارة كانت لإميل توما، وفيها كان بيته». «واللهِ؟» أجبتُ مندهشاً، فيما قلت لنفسي: «حتى إلى هنا يسبقني»، متذكراً أن عليّ تسليم مقالتين للجريدة ليظهرا في الملف الخاص بذكراه الأولى. المقال الأول عن التركة الشعرية لدرويش كما يراها شاعر من جيلي (هكذا طُلب مني)... والمقال الثاني عن قصة الشخصية الحقيقية لـ «ريتا» التي شاع اسمها مع أغنية مرسيل خليفة. إذ يقال في دوائر ضيقة إنّها تانيا رينهارت التي توفيت قبل سنتين في نيويورك، بأزمة قلبية مفاجئة(قبل ذلك بأشهر، اعتدى عليها متطرفون صهاينة خلال تقديمها محاضرة في «مكتبة المقاومة» في باريس)... ولدت تانيا عام 1943 وتربّت مع أمها الشيوعية في حيفا.. وكما تتلمذت على يد تشومسكي في اللغويات، فقد ذهبت مثله بقوة للكتابة السياسيةً. وحتى وفاتها المفاجئة، كان شغلها فضح سياسة إسرائيل والدول الغربية، إضافةً إلى كونها من مناصري المقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل.. كنت معجباً بتانيا وحزنت حين ماتت. إعجاب لا علاقة له بخرافة «اليسار الإسرائيلي» التي يستعملها بعضهم لتغطية التطبيع مع المشروع الصهيوني.. أجرّب أن أُغنّي: «بين (تانيا) وعيوني بندقية.. والذي يعرف (تانيا) ينحني ويصلّي لإله في العيون العسلية».
تانيا الآن ميتة ومحمود ميت، ونحن نصعد الأدراج التي كانا يهبطان منها في الصباح إلى شارع عبّاس. قطع مخيلتي كلام آخر أثناء صعودنا درج العمارة النظيف. أسماء عربية لسكان البيوت ما زالت على الأبواب. وإن لم يعد «عباس» كما كان، صار مكتظاً وفقد رونقه، كما قال لي أحد الرفاق صباح اليوم التالي.
ينفتح البيت على سطح العمارة الذي ألحقه بها مالك الشقة الجديد. هناك، بدأت السهرة من منتصف الليل حتى ساعات الفجر الأولى. السهر فعل جنوني، والكلام أرجوحة مسننة نتأرجح عليها حتى نسقط صرعى النوم... البحر قبالتنا نائم في البحر، والسماء سهرانة وثلاث سروات متفاوتة الطول تتمايل رؤوسها قرب سطوح العمارات رغم علوّها.
لم أتمكن من النوم، إلا بشكل متقطّع، بسبب حرارة شهر آب في حيفا ورطوبته، مقارنةً بصيف القدس المعتدل. بعد العاشرة صباحاً فقط، راح الهواء يلعب في الغرفة محرّكاً روزنامة رمادية على الحائط، عليها صور محمود درويش، صدف أن كانت قبالة فراشي. أغمض عينيّ محاولاً النوم. أفتحهما فأرى الروزنامة تتحرك، وعليها صورة الشاعر ومقاطع من قصائده. يلحّ عليّ من جديد (مثل تلميذ يؤرّقه واجبه المدرسي) موضوع المقالتين لـ«الأخبار». لست قادراً على الحسم: هل ريتا هي تانيا رينهارت؟ هل نعلنها على ذمة الرواة؟ أتمسّك بالحكاية، رغم أنّنا لا نستطيع حتّى الآن تبنّيها كحقيقة تاريخية.
الأصدقاء استيقظوا باكراً وخرجوا إلى أشغالهم. لم يبقَ في الشقة إلا أنا ورفيقة تنام في الغرفة الأخرى. بعد قليل سنخرج، سننزل إلى المدينة التي ستكون أول ما سيُحرّر من فلسطين، كما صرت أؤمن بعد تموز 2006. سنترك «ريتا» ومحمود نائمين في البيت الرقم 45 في شارع عباس، الذي تغمره شمس الستينيات. أما «تركة محمود الشعرية»، فهذا آخر ما يمكن أن يتحدث عنه وارثٌ متلاف!
نجوان...