ثلاثة أفلام وثائقيّة تفضح التفرقة العنصرية والإقطاع، وتدين تواطؤ السلطات الفرنسية مع تسلّط الأقليات البيضاء... في جزر البحر الكاريبي
عثمان تزغارت
منذ أشهر، تفجّرت سلسلة إضرابات وتظاهرات في جزر الأنتيّ (الكاريبي) التابعة لفرنسا. مطالب تلك الحركة الاحتجاجية قوبلت بالتجاهل والازدراء من نيكولا ساركوزي. الرئيس الفرنسي المعتاد على القيام بزيارات مفاجئة إلى مختلف بؤر الصراع والتوتر، من حرب جورجيا إلى العراق المحتلّ، أملاً في استقطاب الأضواء الإعلامية، رفضَ زيارة جزر الأنتيّ، رغم أنّها تعدّ مقاطعات فرنسية، بحجّة أنّ الظروف الأمنية فيها غير مواتية لزيارة رئاسية!
الأسلوب الساركوزي المتعالي صبّ الزيت على نار الحركات الاحتجاجية، فاتسعت وامتدت. لكنّ جذور المشكلة أعمق من ذلك، بعضها يتعلّق بمخلّفات الاستعمار، والنظرة الكولونيالية الجديدة التي تحكم هذه الجزر، منذ قرّرت البقاء تابعة لفرنسا، في الستينيات. حينها وُضعت كل الامتيازات بيد الأقلية البيضاء المسماة بالـ«بيكيه» Békés (أبناء المعمّرين ذوي الأصول الأوروبية)، فيما تخضع الغالبية السوداء من سكان الجزر الأصليين لممارسات من عصر آخر، بدءاً بالتفرقة العنصرية، وصولاً إلى بعض أشكال الاستغلال التي لا تكاد تختلف كثيراً عن العبودية.
على صدى انتفاضة الأنتيّ الأخيرة، شقّت ثلاثة أفلام توثيقية عن الجزر طريقها إلى صالات العرض الباريسية. أول هذه الأفلام Alikar، من إخراج غي ليلورييه، عن سيناريو للروائي الفرنسي ذي الأصل الأنتيلي، باتريك شاموازو (جائزة غونكور ــــ 1992 ــــ عن روايته Texaco). أما الفيلم الثاني، فيحمل عنوان Les 16 de Basse-pointe (متّهمو باس ــــ بوانت الـ16)، من إخراج كاميه مودويش. بينما يحمل الثالث عنوان «بلد بالمقلوب»، وهو شريط بيوغرافي للصحافية سيلفي دامبيير.

«أليكار» و«متّهمو باس ــــ بوانت الـ 16» و«بلد بالمقلوب»
يروي Alikar، في قالب يزاوج بين التوثيق والسينما الروائية، قصّة انتفاضة هزّت جزر الأنتيّ مطلع الثلاثينيات، نددت بتواطؤ السلطات الفرنسية مع الأقليات البيضاء المتسلطة. يستعيد الفيلم وقائعها من خلال قصة صحافي أسود من أبناء تلك الجزر، اسمه Alikar (يحمل الفيلم اسمه). لعب الرجل درواً بارزاً في إيصال أخبار تلك الانتفاضة إلى الرأي العام الفرنسي... ما أدّى إلى اغتياله من أحد كبار المزارعين البيض في جزيرة غوادلوب. وقد بقيت تلك الجريمة بلا عقاب، بسبب تواطؤ السلطات الرسمية في الجزيرة مع الأقلية البيضاء...
أمّا في شريط «متّهمو باس ـــــ بوانت الـ16»، فتستعيد كاميه مودويش وقائع حركة إضرابات مماثلة وقعت خلال الخمسينيات في جزيرة مارتينيك، حيث انتفض العمال السود في مزارع قصب السكر احتجاجاً على ظروفهم المعيشية المزرية. أحد المزارعين البيض يجنّد رجال «الجندرمة»، لإرغام العمّال على وقف الإضراب، لكنّه يقتل في مواجهة عنيفة بينه وبين 16 عاملاً أسود. قامت السلطات الفرنسية بنقل المتهمين الـ16 السود، المتورطين في قتل المزارع المستبد، إلى بوردو (غربي فرنسا)، فحوكموا على بعد 5 آلاف كلم من موطنهم الأصلي، وطالبت وزارة العدل بإعدامهم، ليكونوا بمثابة عبرة. لكنّ «الحزب الشيوعي الفرنسي»، ومثقفي «الضفة اليسرى» الباريسية آنذاك، تحركوا لفضح الطابع العنصري لتلك المحاكمة، وحوّلوها إلى محاكمة للنظام الكولونيالي وللتسلط الإقطاعي بحق سكان الأنتيّ الأصليين...
أما في «بلد بالمقلوب»، فتروي سيلفي دامبيير، وهي صحافية باريسية يعود أصلها إلى جزر الأنتيّ، قصة بيوغرافية تتعلق بعودتها إلى موطنها الأصلي لاكتشاف جذورها. هناك، يصعقها «الوجه الآخر» للجزر الذي لا يمتّ بصلة إلى الصورة النمطية المتداولة عنها في المخيّلة الأوروبية، بوصفها جزراً فردوسية ساحرة، ووجهة مثالية لقضاء العطلة. تكشف سيلفي دامبيير، في قالب إنساني مؤثر، الوجه الحقيقي للأنتيّ المشوب بالكثير من العنصرية. كلّ ذلك يفسّر لماذا تفجّرت انتفاضة الأنتيّ في مطلع السنة الحالية...