«الراية المنكّسة» على سليل القرامطة

اختار حياة الصعاليك، فصار بوصلة للشعراء المتمرّدين. لكنّ قصائده ظلت بمنأى عن الفحص النقدي، لخلوها من الشعارات والهتاف. عاش سنواته الأخيرة فقيراً وبعيداً عن دمشق التي كان، ذات يوم، من أبرز علاماتها الثقافيّة. والآن يرقد في السلميّة قرب محمّد الماغوط والآخرين

دمشق ــ خليل صويلح
«اليوم خمر وغداً أمر»؛ على هدى حكمة الملك الضلّيل، مشى علي الجندي (1928 ــــ 2009) دروب الحياة، غير عابئ بتصاريفها أو بخيانات الجسد... وحتى بمآل قصيدته. كان حضوره الشخصي قصيدةً جوّالة، مشبعة بشهوة الحياة وغوايتها. هكذا بات صاحب «الحمّى الترابية» (1969) من علامات دمشق الستينيات والسبعينيات. أينما توجهت، كنت ستجده بصحبة امرأة، كأنّ هذا الشاعر العبثي الضجر والمحزون، لا تكتمل صورته إلّا في الصخب. كائن ليلي بامتياز، ووجودي على طريقته، فهم الحرية بأبهى صورها، لذلك لم يلتفت بجديّة إلى موقعه الشعري كواحد من رواد الحداثة.
صديق السيّاب منذ أول زيارة له إلى دمشق، كان دليله إلى الحانات والبهجة. إذ كانت قصائده قد سبقته إلى بيروت وبغداد. لم يجد نفسه في السجالات التي كان يخوضها شعراء مجلة «شعر». احتفى هؤلاء به كصاحب قصيدة ذات مذاق خاص، تنفتح على مسالك جديدة، تتجاوز في مناخاتها ومجازاتها تجارب الرواد. فوضويته وضجره من الأضواء، أبعدا شعره عن اهتمامات النقّاد، فكُرّس واحداً من أبرز تجارب الستينيات، من دون فحص دقيق لمنجزه السابق، وخصوصاً أنّ بواكيره الشعرية أقدم من هذه الحقبة، ربّما لأنّه تأخر في إصدار مجموعته الأولى «الراية المنكّسة» حتّى عام 1962.
سليل القرامطة أتى مائدة الشعر من منطقة الظلّ. كتب ذاته برومانسية غنائية عذبة، لا تخلو من تشاؤم مبكر، فقد نكّس رايته قبل هزيمة حزيران (يونيو) بسنوات. هذه الهزيمة نكّست رايات الشعراء جميعاً، لكنّ راية علي الجندي كانت تعبّر عن تمرّد شخصي واحتجاج وجودي، لطالما طبع سلوكه وأشعاره. كأنه بودلير عربي في متاهة الوحشة والغربة والألم و... «أزهار الشر».
غنائيّته تأخذ شكل الحداء والمراثي، وتنشد موتاً متجدداً، وهزائم دائمة تحيق بالروح. هكذا يستدعي قطري بن الفجاءة أحد شعراء الخوارج، تارةً، وطرفة بن العبد طوراً، ليؤكد مأساته وفاجعته وتمرّده على عالم مبعثر ومتصدّع. «إن البلاد تضيقُ، تغدو في قياس القبر... جرّوني بعيداً واجعلوا كفني عريضاً واسعاً حتى أرى من عروة الوطن بقايا صورة المنفى». هذه السوداية نجدها حتى في عناوين دواوينه «النزف تحت الجلد»، أو «صار رماداً» أو «الشمس وأصابع الموتى».

اختار حياة الهامش والتسكّع، وكان يردّد: «كتابة تجربتي تحتاج إلى جرأة هنري ميللر»
لكنّ الجندي من مقلب آخر، شاعر الاحتفاء بالجسد والموت، فهما أقنومان أساسيان في تجربته المنبثقة عن ذات تكتب آلامها الخاصة، من دون الالتفات إلى بلاغة زخرفية. يعتمد وزناً إيقاعياً واحداً في كتابة قصائده، مرتهناً لشجن حياتي عميق، رافقه من صحرائه الأولى السلمية: «لم يعد بيننا سوى: مرحبا آه يا امرأة/ فالقناديل أُخمدت والرياحين مطفأة... أيّنا ضلّ دربه...؟ أيّنا عاف ملجأه».
عمل الراحل في الصحافة الثقافية الدمشقية بمزاج الشاعر، فكان ملاذاً لمعظم تجارب شعراء السبعينيات. يروى أن سليم بركات حين أتى دمشق، ذهب إلى مكتبه متهيباً. وقبل أن يدخل المكتب خلع حذاءه عند الباب، وصافح الشاعر بارتباك. لكنّ الجندي أخذه بالأحضان، ودعاه تواً إلى حانة قريبة لإعجابه بقصيدة له، كان قد أرسلها في البريد. المناصب السياسية التي حازها في شبابه كـ«مدير الدعاية والأنباء» تركها وراءه، ليعيش حياة الصعاليك والعشاق. صار سلوكه مقياساً وبوصلةً لكل الشعراء المتمردين الذين أتوا بعده، على عكس أشعاره التي ظلت بلا مريدين، وبمنأى عن الفحص النقدي الدقيق، نظراً إلى خلوها من الشعارات البرّاقة والهتاف.
أفول الحياة الصاخبة في دمشق مطلع التسعينيات، ورحيل أصحابه القدامى، أصاباه بالضجر والوحشة. قرر فجأة الاستقرار في مدينة اللاذقية، ليعيش عزلة لم يخترها، وخصوصاً أنّ المؤسسات الثقافية الرسمية أهملته، ولم تكرّمه بما يستحق. أعماله الكاملة تبنتها «دار عطية» الخاصّة، ولم تفكّر وزارة الثقافة أو «اتحاد الكتاب العرب» بجمع دواوينه المبعثرة في طبعة واحدة. ذات يوم في أواخر التسعينيات، قصدنا علي الجندي في اللاذقية. قيل لنا إنّه لا يخرج من بيته. وحين قابلناه بعد عناء، صدمنا بشخص آخر أمامنا، هدّه العمر، والصمت، و...الفقر. هذا الشاعر ابن العائلة العريقة في الأدب والسياسة، الأخ الأصغر لسامي الجندي وعاصم الجندي، عاش سنواته الأخيرة في غرفة وصالة متواضعة في زقاق ضيّق.
اتفقنا يومذاك على موعد في فندق «الكازينو» على شاطئ البحر، فجاء إلى الموعد تماماً بكامل ارتباكات العزلة، يتأبط دفتراً يضمّ آخر قصائده، وما يشبه اليوميات النزقة. «كتابة تجربة حياتي تحتاج إلى جرأة هنري ميللر» يقول. ثم نقلّب صفحات الدفتر فنقرأ: «إنني الجرح والسكين». كانت إجاباته عن أسئلتنا متعثرة ومبتورة وحائرة، كأنّ «أبو لهب» صار واحداً من أحد الزهاد الذين هجروا فتنة الدنيا.
ابن الصحراء اختار البحر لترميم عطب حياته في العاصمة. يقول متبرماً: «كتبت عن الصحراء، ولا أزال أعيش فيها. لم أغادرها أبداً. وظلّ البحر حلماً مستحيلاً: أين هو يا ترى؟». لهذه الأسباب ربما أوصى بأن يُدفن في مسقط رأسه السلمية، إلى جانب شجرة عتيقة متاخمة لباحة بيت العائلة... وعلى مقربة من ضريح محمد الماغوط، وسليمان عواد، وطيف المتنبي الذي عبر هذه الصحراء ذات يوم بعيد...