درويش والطيّب صالح في ضيافة «الموسم» الشهيرأصيلة (المغرب) ــ بيار أبي صعب
فجأةً خيّم على القاعة الرئيسيّة في «مركز الحسن الثاني للملتقيات الدوليّة» جوّ من الإصغاء الممزوج بالفضول. بعد ساعتين على انطلاق الجلسة، تعاقبت خلالهما مداخلات كثيرة حول المائدة، بعضها عاطفي، وبعضها نقدي، وبعضها مكرّر حتّى الملل، ردّدت أرجاء تلك القاعة العتيدة، صوتاً هادئاً، تشوبه مسحة من الحزن... كان شريف الخزندار، وهو من وجوه الساعة الأولى في «موسم أصيلة»، يتكلّم بالفرنسيّة، ببطء وتهيّب، كمن يقرأ شيئاً ما يشبه الوصيّة : «عزيزي الطيّب صالح، مثل ليوبولد سيدار سنغور وتشيكايا أوتامسي وبلند الحيدري ومؤسسي هذا الموسم، أنت تنتمي، نحن ننتمي، إلى أجيال آمنت بالثقافة، وبقدرتها على تغيير العالم. اليوم أخذت السياسة الاقتصاد مكان الثقافة. والمساعي مستمرّة لتسخيرها كي تلبّي حاجاتهما، ولعولمتها، ولجعلها سلعة بين باقي السلع. لقد تغيّر العالم، فهل علينا أن نقلب الصفحةفي كلام المسرحي السوري الأصل، رئيس «دار ثقافات العالم» في باريس، رثاء لمرحلة، ووداع مضمر لجيل وزمن وأشياء أخرى... وسؤال غير مباشر يطرحه على أشهر الملتقيات الثقافيّة العربيّة، وقد أخذت المبادرات السياسيّة والاستراتيجيّة تطغى فيها على الإبداع والفكر والثقافة: الماضي كان حافلاً بالإنجازات التي حوّلت بلدة الصيّادين إلى محجّة عربيّة وعالميّة للفنّ والفكر والثقافة، أصيلة ربحت رهان المؤسّسين والروّاد الأوائل الذي يختصره شعار «الثقافة من أجل التنمية»... فماذا عن المستقبل؟ لكن تلك مسألة أخرى، لنكتف الآن بإحياء ذكرى الطيّب صالح.
المحطّات الأقوى ثقافيّاً، في الدورة الحادية والثلاثين من «موسم أصيلة» التي يسدل عليها الستار في ١٨ آب/ أغسطس الحالي، كانت ندوة «الطيّب صالح في الذاكرة»، وقبلها «تحيّة إلى محمود درويش». اجتمع حشد من الأدباء والنقّاد والباحثين، عرباً ومغاربة، حول الأب المؤسس محمد بن عيسى، ليغوصوا في مسيرة الشاعر الفلسطيني، عاماً بالتمام والكمال بعد توقف قلبه عن الخفقان في أحد مستشفيات هيوستن. بعضهم استعاد ذكريات معه، وبعضهم الآخر تناول مكانته في الشعر والضمير العربي والعالمي، فيما توقف قلّة عند منجزه الشعري بالنقد والتقويم. ومحمود زار أصيلة قبل ثلاثين عاماً، في دورتها الثانية. وتقول الأسطورة إنّه دخل البلدة التي كانت تفتقر إلى البنى التحتيّة، على ظهر حمار... أما صاحب «موسم الهجرة إلى الشمال»، فوصل في الثمانينات بعدما أصبحت مدينة، وصار من أركان «أصيلة» ووجوهها الحاضرة على الدوام، عاماً بعد آخر. وقد أضيئت محطات من حياته وأدبه، بعد مضيّ عام ونصف عام على رحيله في لندن (راجع الكادر أدناه).
الندوات الأخرى طغى عليها الهمّ السياسي، وحضرتها نخبة من رجال السياسة والاختصاص: «التعاون العربي ــــ الأفريقي ــــ

أصيلة ربحت رهان المؤسسين على «الثقافة طريقاً للتنمية»... فماذا عن المستقبل؟
الإيبيرو ـــ لاتينو ـــ أميركي»، «أفريقيا والبرتغال»، «الاتحاد من أجل المتوسّط ـــ أوروبا والمغرب العربي»... عشرات الوزراء السابقين والحاليين (من وزير الخارجيّة الإسباني موراتينوس، وزميله البرتغالي لويس أمادو، وزميلتهما السيراليونيّة زينب هوا بنغورا، إلى وزيري الثقافة المغربيين السابق محمد الأشعري، والحالي بنسالم حميش)، مرّوا هذا الصيف من هنا. وكانت البرتغال ضيف الشرف، ما فتح المجال أمام اكتشاف أعمال فنيّة من البلدان الناطقة بالبرتغاليّة، وأمسية خاصة بالفادو (راكيل تافاريس)، أضيفت إلى الفلامنكا الإسبانيّة خيما كاباييرو، والمكسيكيّة سيلفيا مازيا، والباكستانيّة تينا زينا، والمغربيّة ليلى الكوشي، والموريتانيّة منى بنت دندني... وخصوصاً السوريّة وعد بوحسّون التي غنّت عبد الوهاب وأم كلثوم، إضافةً إلى أغنيات من تلحينها لأشعار ابن عربي وولّادة بنت المستكفي.
في أزقّة المدينة القديمة، بين برج الغولة وزنقة سيدي منصور، بين زنقة ابن خلدون وساحة كريكيا... نتذكّر أن «موسم أصيلة» هو في الأساس موعد للفنون التشكيليّة. هكذا انطلق قبل ثلاثة عقود مع روّاد مثل محمد المليحي وفريد بلكاهية ومحمد شبعة، رسموا على الجدران البيضاء. فوج جديد وقّع جداريّات هذا الموسم، من ضمنه عبد القادر لعرج، عزيز السيّد، أحمد بن إسماعيل، أحمد الحجوبي، ليلى الشرقاوي، خالد البكاي، سعيد الراجي... كما ضمّ رواق «الحسن الثاني» معرضاً جماعيّاً لثمانية فنّانين شباب من أصيلة: محمد عنزاوي، سهيل بنعزوز، أنس بوعناني، حكيم غيلان، نرجس ومعاذ الجباري، يونس وزهير الخرّاز، هؤلاء ينتمون إلى ما يجوز تسميته «مدرسة أصيلة» كما فعل المهدي أخريف في تقديم المعرض.
عند المدخل الرئيسي قرب السور، يأخذك زعيق الطيور عند المغيب. يشرح لك «زيلاشي» قديم، أنها تجمع بعضها، بهذه الطريقة، استعداداً للرحيل. إنّه موسم الهجرة من أصيلة إذاً؟ ويواصل محاورك: «هذا معناه انقضاء الصيف». صيف أصيلة انتهى قبل أوانه هذا العام.

عند الغروب في حديقة «سيدي الطيّب»

كريمة الصقلّي غنّت مقطعاً من قصيدة «يطير الحمام»

وذلك المساء، وجّه الـ«موسم»، في دورته الحادية والثلاثين، تحيّة إلى أحد أشهر أيقوناته. أوّل المتكلّمين طبعاً محمد بن عيسى، الوزير السابق، وعمدة المدينة، والأمين العام لـ «منتدى أصيلة» الذي يقود هذه المغامرة في مواجهة التحديات والأسئلة المصيريّة. كان يتكلّم بتأثّر واضح: «سيدي الطيّب لا يتأخر أبداً عن مواعيده... ها أنا أتلفّت فلا أجد إلا طيفه... إنّي مدين له بالكثير الذي لا أستطيع عدّه». حول المائدة الإعلامي طلحة جبريل، مواطن الطيب صالح ومؤلف كتاب مرجعي عنه، واسيني الأعرج، أحمد المديني، محيي الدين اللاذقاني، عبد الوهاب بدرخان، صلاح فضل، أحمد المديني، هيفاء البيطار، حسّونة المصباحي... ووجه بارز لم نألفه في أصيلة، هو الكاتب والناقد محمد برّادة الذي قدّم مطالعة نقديّة أساسيّة في أدب الطيّب صالح. وبعد انتهاء الجلسة الأولى، مضى الجمهور في موكب جميل قبل المغيب لتدشين حديقة باتت اليوم تحمل اسم الطيّب صالح.
في اليوم السابق (الأحد ٩ أغسطس)، وجّه الموسم تحيّة إلى محمود درويش، في يوم رحيله، تحلّق فيها حول بن عيسى، محمد الأشعري، وفاضل العزّاوي، وخلود المعلا، وأنطوان رعد، والمهدي أخريف، وعادل قرشولي، وصموئيل شمعون... وشاركنا في افتتاح حديقة باسمه أيضاً، في قلب المدينة. ثم كان لنا موعد استثنائي ليلتها مع مرسيل خليفة. أمّ الأمسية جمهور متنوّع من الرباط والدار البيضاء. إنّها الزيارة الزيلاشيّة الأولى لمرسيل الذي غنّى قصائد قديمة وجديدة لمحمود درويش (من «يطير الحمام» إلى «ريتا» و«خبز أمي» و«جواز السفر»)، ورافقه رامي خليفة على البيانو، وعازف الكونترباص النمساوي بيتر هيربرت. وكانت المفاجأة صعود المطربة المغربيّة كريمة الصقلّي إلى المسرح لتغنّي، من دون مرافقه موسيقيّة، مقطعاً من أغنية مارسيل الجديدة «يطير الحمام».