في «الجسد المخلوع» (دار الريّس) يتلصّص إبراهيم محمود تحت الملابس. ويتأمّل الكاتب السوري في التاريخ الاجتماعي والميثولوجي للمؤخّرة، من أبو نؤاس إلى حنظلة وصولاً إلى... شاكيرا
نوال العلي
مذ قال الشاعر الجاهلي ذو الرمة «ورملٌ كأوراك العذارى قطعته» وحتّى غنّى أحدهم «آكلك منين يا بطَّة» إلى حنظلة ناجي العلي وهو يدير مؤخّرته للسياسيين، ليجرحهم ويهينهم. ومن وقوف شاكيرا بمؤخّرة مصقولة تحت بنطال جلد بخصر خفيض لتستدير أمام الجمهور وتضع مؤخّرتها في الواجهة، وصولاً إلى تهتّك جموع نسائية في فضاء الفيديو كليب بأوراك مرتخية في رقص مشترك يشبه حالة هيجان جماعي. هذه هي رحلة الملك المخلوع عن عرشه، الجسد المنفي خارجه.
في «الجسد المخلوع» (دار الريّس) يتلصص إبراهيم محمود من تحت السراويل الداخلية. لن يسلم أحد لا الرجال ولا النساء. ليس الموضوع موضوع مؤنث أو مذكر، الجسد كله مؤخّرة، والمؤخرة كلّها الجسد في هذه الحالة الهامشية والمحرجة. وقد قالت العرب إن المؤخرة خير الوجهين، فالوجوه الحسان كثيرة، أما المؤخرات الجميلة فقليلة.
هذا الكتاب من نمط خاص فعلاً، قراءته تشبه التنزّه في طريق معبدة جيداً بين المعرفة الواقعية وتلك النظرية. يجلب محمود مفردات هامشية ويؤثّثها لتصير في المتن أو على الأصح كمادة تحلّل ما يحدث في المتن فعلاً. حالة من التنوّع والمعرفة المكتنزة كأنّها مؤخرة ممتلئة ومثيرة لامرأة ناضجة. وفي الواقع، هذا التشبيه هو من جنس الكتاب الممنوع حالياً في «معرض دمشق الدولي للكتاب» إذ يبحث في تاريخ المؤخرات الاجتماعي والميثولوجي والثقافي والديني والفني أيضاً.
المؤخرة تعود لتكون في المقدمة هنا. وإذا استعدنا الشعر الجاهلي القديم، فلم تكن قصيدة غزليّة لتخلو من التفنّن في تشبيه الأرداف ووصفها. لكن مع تقدم الوقت، تتأخر المؤخرة. وليست هي هنا إلّا بوصفها جزءاً من هامشية الكل ودلالة على تأخّر الجسد ربما.
جاء الكتاب الضخم في سبعة فصول، إضافةً إلى توطئة طويلة أسهب وأطنب فيها محمود في ما أمكن إيجازه. وهذه سمة تلمحها في الكتاب كلّه من دوران حول فكرة واحدة. في «مؤخرة تاريخ مظلّلة»، يقدم صاحب «الشبق المحرّم» مساءلة تاريخية وأنثربولوجّية تتعلّق بالجسد، ويتقاطع هذا الفصل مع كتاب «ديانات العصر الحجري الحديث في بلاد الشام» للأركيولوجي جاك كوفان. يرى محمود أنّ الحالات أو التجسيمات التي كانت قبل عشرة آلاف عام ما زالت توجّه أذواقنا ولا تزال تمثّل المحرك لكثير من أهوائنا. بمعنى أنّها صارت جزءاً لا يتجزأ من المتخيّل الأعمق عن الجسد. في هذا الفصل الغني بتحليله لمعاني اللقى الأثريّة والمنحوتات القديمة، نخرج بانطباع قوي عن حضور المرأة الحيوي كتمثال بتفاصيل واضحة ومشقوقة من الصخر بقوة وصفاقة أيضاً. هذه هي المؤخرة البارزة كقاعدة وسلطة حقيقية، وهذا هو الفرج والنهود المتوثّبة، بينما يغيب جسد الذكر، فهو جسد «يمارس المتعة يرى ولا يُرى، لكنّه مقدّر من خلال الأثر».

مُنع الكتاب أخيراً في معرض دمشق للكتاب
ومن الحفريّات إلى الآثار الأدبية، يراجع الباحث في الفصل الثاني الأدب باعتباره «شاهداً على المؤخّرة (ذوقيات المؤخرة)». الممتع أن محمود يستجلب كل شيء من شعر جاهلي مروراً بشعر العصر الأموي حتى نصل إلى أبو نواس في فقرة «أين هي المؤخّرة المذكرة؟» يقول محمود: «أبو نواس شاعر، شاهد على تحولات المؤخرة، على القاسم المشترك بين ما هو جنساني هنا وهناك، داخل المدينة، حيث يمكن التنويع في مصادر اللذة، لأن المجتمع يهيّئ لذلك» وهو يتحدث بكل وضوح في شعره عن علاقته بالمرأة والغلمان معاً، إذ يقول: «والبر لست له سالكاً/ لي فيه/ ولا في البحر منهاج/ لست بولاج على جارتي/ لكن على ابن الجار ولّاج». هنا حالة مكاشفة لمتعة شاهد على زمانه.
وعن «المؤخرة الراقصة»، يفرد صاحب «ديالكتيك الجسد» فصلاً عن الرقص الذي يعتبره رسماً بيانياً لحمياً أيضاً للجسد، ويستدعي هنا شهادات للراقصة مارتا غراهام وكتاباً لغلين ويلسن، ويتحدث عن «الروك أند رول» ومايكل جاكسون لينتقل بنا إلى الرقصة المولويّة الصوفيّة ثم الرقص الشرقي على الخشبة وفي الأفلام العربية. ما يلفت هو هذه اللغة التي يكتب بها محمود. لغة راقصة وتهزّ بطنها أيضاً، فيقول مثلاً «ثمّة تبادل أدوار، بين هزّ البطن والمؤخرة التي تميل مربربة إلى ذات اليمين وذات الشمال، أو ترتج صعوداً، نزولاًَ، ولا تعرف السكون... حيث يلحظ رقّاص الساعة اللحميّة جيداً، بيغ بنغ الحدث اللحمي الذي ينذر بالانفجار».
أمّا شاكيرا فهي حالة من «التطهير بغواية المؤخرة النفاثة» وهي لمحمود، انعطافة الجسد، صاحبة «الجسد الذي يتلولب أو يتشقلب» وهو يقارنها بجاكسون المهجَّن أيضاً وصاحب الرقصة الشهيرة. ويخصص لها الكاتب فصلاً يتحدث عن سيرتها وجسدها ولحمها الذي يشبه حزاماً ناسفاً. وهي بانطلاقها من إرث حديث وضخم للروك، تستخدم مؤخرتها ذات الشعبية لتوسيع هذا الإرث وفق محمود. ربما بالغ الكاتب في تأويل مؤخرة شاكيرا! الكتاب حالة خاصة بما فيه من تنوع ثقافي وتعدد لمشارب المعلومات. ومن المستغرب أن يُمنع في دمشق، وخصوصاً أنه رغم كل ما يوحيه من جرأة في الموضوع والطرح، لم يكن انتهاكياً ولا إباحياً. إنّه كتاب عن الجسد بوصفه في المؤخرة.