حسين السكاف «أفزُّ من النوم مختنقاً، تدوم النوبة بضع ثوانٍ، لا هواء، أو هواء قليل، ثم أستعيد أنفاسي، إلّا أنَّ رعباً شديداً يشلّني». من هذا المشهد، يستلّ الروائي العراقي المقيم في السويد جنان جاسم حلاوي عنوان روايته «هواء قليل» (دار الآداب). لكنَّ كابوس الأرواح المنفية التي كانت تبغي العودة إلى الوطن سراً في زمن الديكتاتور، صارت تلهج بالهروب من رصاصات الأميركيين وسكاكين الجماعات الإرهابية... وفي كلتا الحالتين يبقى هواءٌ قليل... على قلَّتها، فإنّ الأعمال الروائية العراقية التي ظهرت بعد سقوط النظام السابق وتناولت عودة المنفيين إلى وطنهم، تبدو كجلسات علاج نفسي للكتّاب أنفسهم... حلم العودة إلى الوطن والخوف منه في آن نفسه يؤنس المنفيّ في وحدته. هذه الإشكالية تظهر جلية في رواية جنان حلاوي وبطلها يونس، لاجئ عراقي، خرج من البلاد نهاية السبعينيات بسبب تبنّيه أفكاراً ماركسية. ينتهي به المطاف في السويد، وهناك يعيش سنواته من دون أن يتأقلم. «اكتشف في نفسه مع مرور الوقت خاصيَّة عدم الانسجام مع القوانين والأنظمة والأعراف التي يجب أن يلتزم بها طوعاً أو كرهاً:

تأخذ الرواية أحياناً أسلوب السيرة الذاتية
لا تدخين في الأماكن المغلقة، لا مشروب ـــــ كحول ـــــ يباع في الدكاكين، لا زيارات دونما موعد مسبق، ضرورة التحدث بصوتٍ منخفضٍ في دوائر الدولة، الوقوف في الدور طويلاً ومواعيد منضبطة...». علاوة على ذلك، يكتشف بطل الرواية أنَّه محاصر من جهات عدة. ففي فصل دراسة اللغة السويدية، يروي حلاوي نزعةً عنصرية لبعض الأكراد العراقيين تجاه مواطنيهم من العرب. هم «لا يحبون العراقيين. أنت تعرف، بسبب الحرب بين الحكومة والأكراد». هناك أيضاً سويديون يرسمون خلسة الصليب المعقوف على أبواب بيوت اللاجئين، وشعارات «اطردوا المهاجرين! ألقوا بالغرباء خارجاً! السويد للسويديين».
تحكي الرواية قصة مؤلّفها، وتأخذ أحياناً أسلوب السيرة الذاتية، والأهمّ أنّها تنقل تلك الغرابة التي صار عراقيّو المنافي يتلمّسونها من خلال شاشات التلفزيون لحظة دخول قوات الاحتلال وسقوط التمثال: «...الدبابات الأميركية تطوي الطرقات في مناطق يعرفها، وأنحاء تمشّى فيها، وأحياء لعب في أزقّتها، غبارها مألوف، شمسها لافحة، وفيء نخيلها كثيف ولذيذ وقت الحرّ»...
المشهد أغرى العديد من العراقيين بالعودة إلى الوطن، ويونس من بينهم. لكنّه حين اتخذ قرار التخلّص من ثلج المنفى «خالجه إحساس بأنه ذاهب إلى بلد أجنبي، لأنه غير متيقّن تماماً ممّا يجري على أرضه حالياً، وأي مشهد سيرى»... عاد وفي المسافة الواصلة بين حدود العراق الجنوبية ومدينة البصرة، يصوِّر لنا الراوي مشهداً مصغّراًً للاحتلال: «القافلة العسكرية الأميركية المتقدّمة على طريق البصرة تدبُّ نحو المدينة التي ولدتُ فيها، وعشتُ وعاش أجدادي، وقد شعرتُ بغرابة ذلك ولامعقوليّته، إنّها الآن مدينة محتلّة». حين صار بين أهله واستنشق هواء مدينته: «دار في خلده أنَّه فقد أثمن ما لديه: أوهامه... ها هو قد عاد شخصاً عاديّاً لا يحمل علامات المنفيّ، بقلقه، وحساسيته، وعذابه الروحي». لكنّه سرعان ما يتحول إلى متهم، تقرِّر سلطات الاحتلال استبعاده وإلقاءه خارج الحدود منفيّاً عراقياً من جديد.