جهد توثيقي دقيق قام به هنري لورانس في الجزء السادس من موسوعته «مسألة فلسطين» (المركز القومي للترجمة). المؤرخ الفرنسي يحرص هنا على الابتعاد عن منطق الاستشراق
دينا حشمت
من تفاصيل المحادثات السريّة الفرنسيّة ـــــ الإسرائيلية ثمّ البريطانيّة عشيّة شنّ الهجوم على السويس عام 1956، مروراً بالخلافات السياسية في القاهرة وتل أبيب قبل 1967، وصولاً إلى تكتيكات الإدارات الأميركية المتعاقبة للتدخل في شؤون الشرق الأوسط، يعرض الجزء الأخير من كتاب «مسألة فلسطين» (المركز القومي للترجمة ـــــ تعريب بشير السباعي) حقبةً غنيةً من تاريخ المنطقة.
من كنيدي، صاحب «التقارب الأميركي ـــــ الإسرائيلي» إلى جونسون وخطّته، مروراً بشارل ديغول الذي يكشف المؤلِّف انحيازه لإسرائيل، يعرض المؤرّخ الفرنسي هنري لورانس «مسألة فلسطين» في تضافرها بالعلاقات الدولية. «ما يميّز هذا العمل عن سواه هو أنّه تسجيلي توثيقي دقيق، ليس استعراضاً تنظيرياً فارغاً» يقول المترجم.
يشكِّل هذا الكتاب السادس«1956-1967: أصول حرب يونيو/ حزيران» الجزء الأخير من عمل موسوعي، بدأ عام 1799 مع دخول نابوليون بونابرت فلسطين و«اختراع الأرض المقدسة». ترجمت الأجزاء الستة الأولى إلى العربية ويعمل لورانس حالياً على الأجزاء الستّة القادمة ـــــ على أن ينتهي من كتابة الجزء القادم من حرب 1967 حتّى اجتياح بيروت 1982 أواخر العام المقبل، كما يقول السباعي. هذا الأخير ترجم معظم أعمال صاحب «مسألة فلسطين» إلى العربية، منها تلك التي تناولت الحملة الفرنسية في مصر («بونابرت والإسلام»، «بونابرت والدولة اليهودية»، «الأصول الفكرية للحملة الفرنسية على مصر»...) وتلك التي تتناول مسألة «فرنسا وتكوين العالم العربي الحديث». يخبرنا المترجم أيضاً أنّ أستاذ التاريخ المعاصر للعالم العربي في «مؤسسة الكوليج دو فرانس» العريقة هو أوّل من سمح له بالاطلاع على أرشيف الخارجية الفرنسية في ما يخصّ هذه الفترة وهذا الموضوع. كذلك فإنّ الكتاب يعتمد على «مراجع من الدرجة الأولى وفي الاتجاهات الثلاثة، «مع» و«ضد» و«محايد»»، من الأرشيف الفرنسي والبريطاني والأميركي وأرشيف «جامعة الدول العربية» و«عصبة الأمم» و«المنظمة الصهيونية العالمية» وغيرها... وفق المؤرخ الفلسطيني عبد القادر ياسين.

إيمان بالمركزية الأوروبية التي «نوّرت» العالم الثالث

من جهته، لفت الصحافي عبد العال الباقوري في ندوة عقدت في «المجلس الأعلى للثقافة» (مصر) بعد صدور الكتاب إلى أنّ «رؤية المؤرخ مؤمنة بالمركزية الأوروبية، وأنّ الثورات التي جاءت بها أوروبا «نوّرت» العالم الثالث». إلا أنّ المؤرخ محمد عفيفي رأى أنّ لورانس «من المؤرخين الأكثر إنصافاً للقضية الفلسطينية، فهو ينفي عن نفسه صفة الاستشراق» وأضاف أنّه ليس مفترضاً أن «ننتظر منه أن يكتب بلساننا»، مؤكداً أنّ بعض الأخطاء طبيعية في عمل بهذا الحجم.
أما الجدل الأهم الذي قد يثيره الكتاب فهو التساؤل حول وجهة نظر مؤلفه إلى القضية الفلسطينية. عنوان «المسألة الفلسطينية» لا يحمل نفس معنى «القضية الفلسطينية»، واختيار مصطلح معيّن دون غيره قد يقرّب الكاتب من استخدام «وصف استعماري». ويرتبط هذا الجدل أساساً بالتساؤل عن إمكان أن يكون المؤرخ موضوعياً، وعمّا إذا كان اختياره وجهة نظر واضحة ينفي عن أعماله قيمتها العلمية. هذا الادّعاء تراجع في السنوات الأخيرة لمصلحة موقف أسقط عن «الانحياز» صفة التهمة المطلقة في المجال الأكاديمي ـــــ شرط إعلان الباحث الموقع الذي يقدّم منه روايته التاريخية. لكنّ هنري لورانس تردّد بعض الشيء في إعلان انحيازه، متمسكاً تارة بموضوعية شكليّة، تتجلى مثلاً في جملته الختامية للجزء السادس حول «بعد النزاع الأول»: «صراع شعبين يطالب كلّ منهما لنفسه بالأرض المقدسة»، متعاطفاً تارةً أخرى مع القضية الفلسطينية، قائلاً في موقع آخر إنّه لا يحق لشعب أن يطالب بأرض ما بموجب وعد إلهي.