«هنا وربّما هناك» مشروع متعدد الوسائطنوال العلي
فُقد وحيد صالح «هنا وربّما هناك». لا أحد يعلم إلى أي ميليشيا ينتمي القنّاص أو العابر أو القاتل. هو شاب ثلاثيني أسمر له لحية عبَرَ خط التماس بسيارة «فيات» كحلية في حزيران (يونيو) 1986، وفُقد منذ ذلك اليوم. تتساءل في البداية ما المغزى من تكرار فكرة واحدة بأكثر من وسيلة؟ لكن مشاهدة وتصفّح موقع «هنا وربما هناك» للتشكيلية لميا جريج يكشفان عن جماليته وأهميته شيئاً فشيئاً. نقول مشاهدة وتصفّح، لأنّالنص والصورة عنصران أساسيان في حياة هذه القصة التي تحاك على صفحات متتالية، في موقع أطلقته جريج حديثاً. وكانت الفنانة قد أخرجت فيلماً حمل الاسم عينه، والقصة نفسها تقريباً في 2003. وفي الفيلم، تظهر بعض الصور الفوتوغرافية ــــ متوافرة على الموقع ــــ يقلّبها أحدهم وهو يحكي عن «السبت الأسود».
تستلهم جريج (1972) قصتها القصيرة التي كتبتها بالفرنسية في عام 1996، من فيلم «راشومون» للياباني أكيرا كوروساوا. هكذا، تستعير منه حبكته القائمة على شهادات متناقضة لأربعة أشخاص عن مقتل أحدهم. وتضع مخرجة «ليال ونهارات» لقصتها كل مفرداتها الكلاسيكية فتحدّد الزمان بأيلول (سبتمبر) 1987، والمكان خط التماس أو بيت أحدهم. وتسمّي الشخصيات بأسمائها: أمنة عجوز فقدت ابنها في الحرب، زياد القنّاص، نبيل ك. رجل من الميليشيا، زاهي صديق أمنة، وهناك امرأة مجهولة. إضافة إلى رجل يتحرى عن اختفاء شخص اسمه وحيد صالح (اسم مبهم وضعيف لا يشير إلى أصل أو فصل).
لا تبدو الصفحة الأولى من الموقع جذابة فنياً. على العكس، إنها غير مشجعة أبداً. لكن جريج تضرب بالاعتبارات الخارجيّة عرض الحائط: فهي تقترب من مكان وزمان غير مشجعين أبداً، وتستعمل ألوان تلك الفترة ولغتها وجمودها كي تشبه الحكاية. فيظهر على بوابة الموقع الإسفلت وفتحة الصرف الصحي، حيث يُحَدّد موقع كل شخص بالنسبة إلى مكان الجريمة. وهنا يغيب اسم وحيد المفقود ليحلّ محله تعبير آخر هو «مكان الجريمة»، فتترك جريج الفرصة لكل شخصية كي تقول جانبها من الرواية، وتعدد في استخدام أساليب الخطاب، لتضفي أجواءً غامضة تناسب روح القصة. وتتنقل بين دورها راويةً للأحداث وشاهدةً من بعيد عليها، ثم تتحدث باسم المتكلم، لتعود وترتد إلى الحديث بصيغة الغائب.

النص والصورة عنصران أساسيان في القصة، والخلفية الموسيقية تقبض على الأنفاس
في الواقع، إن تنوع تجربة جريج الفنية من فيديو وتجهيز وكتابة ولوحة تقليدية، هي التي درست السينما والرسم في نيويورك، لا يظهر في هذا الموقع المتقشف جداً الذي يعرض بتجرّد وبساطة للقصة المطلوب التواصل معها بطريقة تفاعليّة. البنية الفنية قائمة على الصور (بالأبيض والأسود) والنص. أحياناً يظهر الاثنان معاً، وغالباً ما يكون ظهورهما منفصلاً. وفي الحقيقة، إنّ الصورة تؤدي دوراً جمالياً تفتقر إليه اللغة المباشرة والحادّة. وهي كذلك لغة أشخاص يروون لمحقّقٍ ما حدث وما رأوا وتنضوي عباراتهم على تبريرات كثيرة. فيما توفر الصورة جانباً جمالياً فنياً غائباً للغة. كأنّ جريج قسمت المعادلة الفنية بالنصف، تركت للغة شقّاً جافاً مهمته الإخبار والكشف وأعطت الصورة دوراً مختلفاً. إنّنا نجد صوراً لأشخاص يتعلقون بالشخصيّات الرئيسية، لكنّنا لن نتمكن من رؤية أي منهم أبداً. نحن نتعرف إلى حبيبة زاهي، أو ابن أمنة، أو جدة المرأة، أو شقيقة نبيل ك، حتى ليُخيّل إلينا أنّ الشخصيات كلها مفقودة.
صاحبة «أغراض الحرب» تنسج قصتها «هنا وربما هناك» من وحي خيال، غير أنّ قوتها تكمن في طريقة روايتها كقصّة واقعيّة ملتبسة ذات حقائق غائبة أو غير مكتملة. هذه القصة مثل أحجية علينا تجميع مفرداتها كل على طريقته، وبحسب الطرف الذي ينتمي إليه في المدينة... فالناس لا ينتمون إلى بيروت كلّها بل إلى حيّ فيها. هنا تضع جريج خريطة بيروت مكاناً للجريمة. ثمة نقاط حمراء تسير باتجاهات مختلفة. الجريمة حدثت في كل مكان، والدم الذي التقطت صورته كأنّه مجرى نهر على إسفلت هو دم وحيد صالح. فكيف توزع دمه بين الأماكن والنّاس؟ لقد كانت جريج من الذكاء في صياغة القصة إلى درجة تفقد القارئ التعاطف مع المفقود أو الضحية، فهو قد يكون قاتلاً هو الآخر، وأحياناً أنت تتعاطف مع القتلة المحتملين في هذه القصّة.
اللافت في هذا الموقع أن المتصفح لا يمكنه أن يعود إلى الخلف، إنّه أمام أمرين: إمّا أن يتابع القصة إلى آخرها، وإما أن يعود إليها منذ البداية. وربما أمكنه أن يغير موقعه بالنسبة إلى الشخصيات، فيكون مرة مع الضحيّة ومرة مع القنّاص.
تنتمي جريج إلى جيل كرّس كل فنّه للحفر في ذكريات الحرب، منذ بداياتها أوائل التسعينيات، إنّه جيل ربيع مروّة وأكرم زعتري ووليد رعد. يحسب لها هذه المرّة في موقعها الجديد أنّها من أوائل مَن قدموا النص مرئياً في لبنان. ربما كان يمكن أن يقدم بثلاثة أبعاد أو بأي طريقة فنية أخرى. لكن جريج ارتأت أن تتركه ليشبه وقته وزمانه، حتى وهو يعرض بأحدث الوسائل. لا ينبغي أن ننسى الخلفية الموسيقية للموقع (شربل هبر)، إنّها فعلاً أوّل ما يقبض على الأنفاس.

www.hereandperhapselsewhere.com