الإيديولوجيا والدين وتأثره بالشعر الديني الإنكليزي... ثلاثة عوامل يحدّدها الشاعر العراقي في دراسته لـ«تجربة توفيق صايغ الشعرية» (دار الريس)
حسين بن حمزة
لا يُلام القارئ إن بالغ في حفاوته لكتاب «تجربة توفيق صايغ الشعرية» (دار الريس) للشاعر العراقي سامي مهدي. كتابة شاعر عن شاعر ممارسة نادرة في حياتنا الأدبية، ولا بدّ أن تحمل اقتراحات لا تخطر في بال أغلب النقاد الأكاديميين الذين يعاملون النصوص وفق معايير مسبقة. يتحمَّس القارئ بمجرد رؤيته لعنوان الكتاب، فإعادة شاعر مظلوم ومبعد عن الأضواء وحقل الدراسات (نستثني هنا جهود صديقه وناشره رياض الريس الذي أصدر أعماله الكاملة) تكفي وحدها للاحتفاء بالكتاب. لكن سرعان ما تفتر حماسة القارئ كلما تقدم في مطالعة فصوله. الإشكالية الأبرز تكمن في أن المؤلف يعتمد عملياً على مرجع واحد هو كتاب «توفيق صايغ، سيرة شاعر ومنفى» لمحمود شريح، إضافة إلى متفرقات معروفة عن الشاعر تتضمن معلومات لا يستخدمها المؤلف بهدف فحصها مجدداً أو إدخالها في سياق يكتشفه بنفسه. معظم الأفكار الواردة في الكتاب قديمة ومدروسة. الجديد أن سامي مهدي يُخضع الشاعر وتجربته لقراءة متعسفة. أول هذا التعسف يتجلى في نقص المراجع، وعدم بذل أي جهد للحصول على مصادر أخرى. الغريب أن هذا النقص لم يدفع مهدي إلى التعمق العادل في دراسة أعمال صايغ المتوافرة لديه، فهو يدرسها ليصل إلى استنتاجات جاهزة في ذهنه، معتمداً على قراءة مخالفة للواقع الذي عاش فيه صايغ.
منذ البداية، يقرر مهدي أن هناك ثلاثة عوامل رئيسية أسهمت في تكوين الهوية الشعرية والثقافية لصاحب «بضعة أسئلة لأطرحها على الكركدن»: العامل الإيديولوجي المتمثل في انتمائه إلى الحزب السوري القومي، والعامل الديني المتحصل من كونه ابناً لقسيس بروتستانتي، وأخيراً تأثره بالشعر الديني الإنكليزي. الواقع أنها مؤثرات يصعب إنكارها، إذْ ينتمي توفيق صايغ إلى عائلة كان أفرادها قريبين، انتماءً وتأثراً، من أفكار أنطون سعادة، وتحتشد قصائده بالكثير من الرموز المسيحية، كذلك فإنّ لغته الشعرية تستثمر «أدب التوراة» أو اللغة التي تُرجمت بها التوراة إلى العربية. المشكلة أن مهدي يأخذ هذه المؤثرات بوصفها مقدمات بديهية لنتائج حتمية، ويضع شعر صايغ تحت مجهر هذه المقدمات حارماً إياه من أي فرصة للتنفس خارجها. بينما كان سهلاً عليه التحرِّي عن حقيقة انتماء صايغ الإيديولوجي لكي يتأكد له أن الشاعر لم ينتمِ إلى الحزب القومي السوري، وهذه المعلومة موجودة في مذكرات شقيقه أنيس التي صدرت قبل عامين. أما تأثره بأدب التوراة واستثماره للتراكيب اللغوية التوراتية، فليس حتمياً أن يكون ذلك طموحاً من صايغ أن يكون «شاعراً مسيحياً حتى النخاع» (ما علاقة النخاع بالنقد الأدبي هنا؟). لقد استثمر صايغ فعلاً اللغة التوراتية ليقدم تجربة خاصة ضمن التجارب التي كان شعراء تلك الحقبة وروادها يسعون إلى ابتكارها وتسجيلها بأسمائهم. يتجاهل سامي مهدي هذا المسعى التخييلي والشعري ويعامله على أساس ديني ضيّق، بل يصل إلى حدّ تكذيب صاحب «القصيدة ك» المكتوبة بوحيٍ من امرأة إنكليزية أحبها صايغ وعذَّبته كثيراً، مشيراً إلى أنها من «خلق خياله». ولو أنه بذل جهداً بسيطاً، لعرف أن عدداً من أصدقاء صايغ قابل «ك» شخصياً. الأنكى من هذا أن مهدي يقدم نصائح في الكتابة لشاعر رحل منذ 38 عاماً وما عاد ممكناً تبديل حرفٍ في تجربته.
يقول المؤلف إنّ دراسته ألقت على تجربة صايغ «أضواءً جديدة لم يسبق لدارسٍ أن ألقاها بحسب علمي»، فنتذكر الذكاء والعمق اللذين أنجز بهما صايغ كتابه «أضواء جديدة على جبران» ونقول: شتَّان.