شبح الحرب يخيّم على روايتيه «لعبة دي نيرو» و«صرصار»، حيث البطل كافكاوي الهوى يحاول الهروب من ذاكرة لا ترحم
زياد عبد الله
لم يتحوّل الراوي إلى صرصار كامل كما حصل مع غريغوار سامسا في رواية فرانز كافكا «المسخ». بل إنّه تحوّل إلى نصف صرصار، بينما النصف الثاني إنسان. إنّه ثقب الأوزون اللعين الذي سيُتيح للشمس حرقَ هذا الكون، فترث الصراصير الأرض، بعدما تكون الكائنات الوحيدة التي نجت من هذه الكارثة البيئية.
رواية الكاتب اللبناني الكندي راوي الحاج (1964) Cockroach (صرصار) الصادرة عن «دار بنغوين ـــــ هاميش هاملتون» في لندن تقول لنا ذلك.
ربما تحت وطأة الهيرويين، سنشهد حوارات بين الراوي الذي لا يحمل اسماً وصرصار هائل، وصولاً إلى النهاية «زحفت وسبحت فوق الماء، وعندما رأيت ورقة شجرة يحملها تيّار الصابون والماء كما لو أنها جندول البندقية، تسلّقتها واهتزت كراقصة غجرية، ومن ثم وجهتها بواسطة جناحي الشفافين نحو العالم
السفلي».
لا يختلف بطل رواية «صرصار» كثيراً عن بطل De Niro’s Game (لعبة دي نيرو ـــــ 2006)، تلك الرواية التي عرّفت العالم براوي الحاج، بعدما ترشّحت لعدد كبير من الجوائز، وبسبب «أصالتها وقوّتها وشاعريتها» كما وصفها بيان «جائزة دبلن الأدبية» التي فازت بها الرواية في العام الماضي.
السرد معكوس في «صرصار». سنبدأ من مونتريال، ثم يعود البطل في الذاكرة إلى بيروت. أمّا في «لعبة دي نيرو»، فيبدأ السرد من بيروت ويبقى مسرح الرواية الأكبر متمثلاً في الحرب الأهلية، حين كان رجال الميليشيات يلعبون تلك اللعبة المأخوذة عن فيلم «صياد الغزلان» Deer Hunter الذي أدى بطولته روبرت دي نيرو وأُخذ عنوان الرواية منه.
في «لعبة دي نيرو»، فتح الحاج الباب على مصراعيه لتقديم رواية تحمل ـــــ في جزء كبير منها ـــــ هماً توثيقياً لأخلاقيات الحرب الأهلية اللبنانية وأحداثاً محدّدة مثل اغتيال بشير الجميل ومجزرة صبرا وشاتيلا. وهذه الأخيرة تأتي على لسان جورج (الملقَّب بـ«دي نيرو») سرداً موازياً للتاريخي «كنا 500 أسد في المطار، لم يكن شيء ليوقفنا. تقدّمنا كالرعد باتجاه مخيمات اللاجئين في صبرا وشاتيلا على امتداد طريق الأوزاعي، مررنا قرب ثكنة هنري شهاب، وانضمت إلينا فرق من جيش لبنان الجنوبي».
هكذا، يمسي الأمر أشد وقعاً ما دام يأتي على لسان شخصية صاغها راوي الحاج لتكون من لحم ودم، ولتكون أيضاً نموذجاً مكثفاً لمَن مارسوا القتل بلا رحمة تحت إمرة أبو نهرا «حين وصلنا هناك، سمعنا صراخ امرأة، كان ثلاثة رجال يغتصبون ممرضة على الطاولة... في العراء، جثث ممرغة بالتراب ومنتفخة. صار الدم بقعاً داكنة يقتات عليها الذباب الأخضر».
أما بداية «صرصار» فتأتي من الحب، من عشق بطل الرواية (ليس له اسم) لامرأة فارسية اسمها شوهريه. «أنا عاشق لشوهريه. لكنني ما عدت أثق بمشاعري أبداً. لم أعش مع امرأة وربما لم أغازل واحدة. كنت أتساءل دائماً عن حاجتي إلى الغواية والاستحواذ على كل أنثى أصادفها».

في «لعبة دي نيرو» تناول اغتيال بشير الجميل، ومجزرة صبرا وشاتيلا حيث مجرمون يقتلون بلا رحمة

في «صرصار»، يضعنا راوي الحاج أمام شابّ مهاجر يعيش في مونتريال، مفلس، عاطل من العمل، مستعد لأن يفعل كل شيء بلا مبالاة وبيأس أحياناً: هو قد يهدد أحدهم أو يبتزّه، أو يسرقه، أو يعيش على مساعدات الدولة. إنّه رجلٌ مثقل بذكريات لا تعرف الرحمة. حاول الانتحار بشنق نفسه في حديقة عامة، لكن الشرطة سرعان ما أنقذته ووضعته في مصح. ثم كان عليه أن يخضع لجلسات علاج مع طبيبة نفسية، سيستعيد من خلالها حياته الماضية المحاصرة بالقتلة واللصوص ورجال الميليشيات: أبو رورو معلّمه في السرقة، طوني رجل الميليشيات الذي هربت معه أخت الراوي وتزوّجته وتجرّعت من قبضته شتى أنواع اللكمات إلى أن قتلها ذات يوم، فيشعر بطل الرواية بأنّه سبّب مقتلها بطريقة غير مباشرة.
يمثّل «الفلاش باك» خلال خضوع البطل لجلسات العلاج النفسي آليةً مستخدمةً بعناية ليستحضر الراوي حياته خلال الحرب الأهلية، وإن لم يرد اسم لبنان في العمل.
سيكون ماضي الحرب مختزلاً في قصته من دون الخوض في أي أحداث تخرج عنها.
ويضاف إلى تلك الآلية موهبة يتمتع بها الراوي تتمثل في التسلّل إلى البيوت. وبناءً على ذلك، فإنّه يروح يتلصص على حياة معالجته النفسية الخاصة، وحياة شخصيّة يسمّيها «البرفسور الجزائري» وغيرهما...
هكذا، سيقارب الشخصيات برؤية مضاعفة تمكّنه من اكتشاف ما يخفون ونبش بيوتهم.
هذه الآليات ستنجح مع لغة سرد مميزة تحمل نكهة الهروب دائماً، مكتوبة كما لو أن كاتبها مطارد أبدي وبجمالية خاصة، مع عبث يهيمن دوماً على أفعال بطل الرواية «كل ما تستطيع القيام به هو إضاءة ضوء الثلاجة أو إطفاؤه. ومتى أغلقت باب الثلاجة، فإنّك ستعجز عن معرفة إذا كان الضوء قد تحول إلى العتمة وصار مثل روحك المظلمة».
ستحمل الرواية قدراً كبيراً من الشخصيات التي تظهر وتختفي، وتبقى الغلبة للمهاجرين الإيرانيين.
لا نجاة إذاً من مصير الصرصار ما دامت الحياة معطلة أيضاً في كندا. ولا شيء إلا البرد والثلج، وانعدام الأمل.
هكذا، يصبح الانتقام الفعل الوحيد الذي سيجد فيه بطل الرواية جدوى أو معنى لحياته. لكنّ انتقامه لن يكون من قاتل أخته الذي هرب إلى ساو باولو، بل من جلاد شوهريه الذي كان يعذّبها ويغتصبها في إيران وقد صار دبلوماسياً في كندا.


Taxi Driver

راوي الحاج (الصورة) يعمل على رواية ثالثة الآن، وهو ماضٍ قدماً خلف نكهة روائية خاصة. بعدما غادر لبنان وهو في الثامنة عشرة في عمره، وانتقل إلى نيويورك في عام 1982 حيث درس وامتهن التصوير الفوتوغرافي. في عام 1991، انتقل إلى كندا حيث درس الفنون في جامعة «كونكورديا» وأقام العديد من المعارض ودخلت بعض أعماله إلى «المتحف الكندي للحضارة». إضافة إلى التصوير، عمل راوي الحاج سائق تاكسي في مونتريال مثل شخصية مجيد في «صرصار»، وما زال على رأيه بأنّه يفضّل رفقة زملائه السائقين المحملين دائماً بقصص جديدة على الكتّاب والأدباء الذين «لن يضيفوا شيئاً إليّ».