شادي زين الدين يختتم «مهرجان الفيلم اللبناني»بيار أبي صعب
جمع «مهرجان الأفلام اللبنانيّة»، في دورته الثامنة، باقة من الأعمال التجريبيّة والوثائقيّة والروائيّة والفيديو كليب (غير التجاري) وأفلام التحريك... واستقطب جيل الفيديو، ونجح في تسليط الضوء على حركة إنتاج غزيرة تضيق بها شبكات التوزيع التقليديّة. دانيال عربيد تستأنف شغبها في فيلم تسجيلي بعنوان «أحاديث نسوان ـــــ الجزء الثاني». وتواصل رسم لوحات نقديّة للمجتمع البورجوازي المسيحي، من خلال كاميرتها الثابتة المحايدة، التي تلتقط بكثير من الرقّة أحاديث القهوة في صالون أمّها. فيها يعبر كلّ شيء: من العلاقة الخاصة بالدين، إلى عمليّات التجميل، مروراً بالخدم والجنس والعنصريّةفي سياق آخر، لكن من موقع نقد الذات (الجماعيّة) أيضاً، تختار إليان الراهب في «هيدا لبنان»، نقد الطائفة المارونيّة التي تنحدر منها، بكثير من الجرأة والنزاهة. تأخذنا (برفقة زينة صفير) إلى فضاءات المواجهة مع رموز تلك الطائفة وخطابها السياسي، وتصل إلى حدّ التصادم المباشر مع عائلتها. هذا التمرين يمكن أن يفتح الباب أمام مشاريع أركيولوجيّة في رحاب مختلف الجماعات اللبنانيّة. لكنّ المادة الشائكة التي تشتغل عليها المخرجة، حالت ربّما دون أن تحكم السيطرة، فنيّاً، على موضوعها.
وتجاورت ضمن برنامج المهرجان، ثلاثة أعمال منشغلة باستعادة الماضي، ومراجعة الذاكرة. الأوّل «خيام ٢٠٠٠ ـــــ ٢٠٠٧» لخليل جريج وجوانا حاجي ـــــ توما يقدّم وثيقة نادرة عن معتقل الخيام، صوّره الثنائي على مرحلتين (قبيل التحرير وبعد عدوان تمّوز) مع ستة أسرى محررّين، بينهم سهى بشارة، يتحدثون في لقطات طويلة ثابتة، على خلفيّة محايدة، عن تجربة الأسر بأبعادها المختلفة. والثاني لمحمّد سويد بعنوان «ما هتفت لغيرها» يعود فيه إلى سنوات النضال الفتحاوي وأوهام السبعينيات. بأسلوبه المعهود الذي يتلاعب على المستويات السرديّة والشخصيات والأمكنة والحالات الفنية، مازجاً بين الروائي والتسجيلي، يسلّط على الراهن نظرة شك نقديّة، تستبدل دبي بسايغون. وأخيراً قدّم الثنائي لقمان سليم ومونيكا بورغمان عملهما الجديد، في سياق مشروعهما مع «أمم» المنشغل بالحفر في ذاكرة الحرب الأهلية. «أوّلها نجوى... وآخرها» الذي يريده لقمان مسوّدة فيلم قيد التطوّر، يتألف من أربع مواجهات، مقاتليَن من «أمل» مطموسَي الوجه، وإلياس عطا الله المسؤول العسكري السابق في الحزب الشيوعي، وأسعد الشفتري القواتي السابق وصاحب المبادرة الأبرز والأشهر للاعتذار عن ممارساته في الحرب الأهليّة.
أسماء كثيرة من الجيل الجديد يمكن التوقّف عندها في «مهرجان الأفلام اللبنانيّة». من طلال خوري الذي قدّم في «الأربعاء» عملاً روائيّاً قصيراً لافتاً، بعبثيّته ونفسه الكوميدي وممثليه وموسيقاه... إلى سيرين فتّوح في «إعادة» حيث الممثل يقدّم أربع إجابات/ مونولوغات مختلفة في الإطار نفسه، عن سؤال ماذا خسرت وماذا ربحت في حياتك؟

شيرين أبو شقرا قدمت تحفة صغيرة لعلها مفاجأة المهرجان
ولا بدّ من وقفة خاصة عند فيلمي غيث الأمين «ذات مرّة على الرصيف»، وشيرين أبو شقرا «لحظة أيّها المجد». هناك قاسم مشترك بين الشريطين ذوَي النفس التجريبي الخصب: استعمال الموسيقى عنصراً سردياً ودرامياً أساسي في العمل. غيث الأمين يروي ما يستعصي على السرد، من خلال مشاهد متكررة، ترصد الذاتي والحميم وحركة الزمن. يكتب غيث بالفيديو فيلمه المصمّم مثل كوريغرافيا مؤسلبة، يبطّئ الحركة، يعيدها، يلعب على الانعكاسات والأطياف والكلمات العابرة، ليختزل وجعاً وجوديّاً شفيفاً، لا تتسع له القوالب السائدة. أما شيرين أبو شقرا، فقد قدمت تحفة صغيرة، لعلّها من مفاجآت المهرجان، عن حياة المغنيّة وداد. لم تذهب إلى اللغة التسجيليّة، بل خلقت عالمها الممسرح (مع منال خضر وأخريات)، واعتمدت الرسم والتحريك (بالاشتراك مع فيدز). نسمع صوت وداد في أيّامها الأخيرة تروي وتغنّي، نراها قليلاً، نسمع أصواتاً أخرى تتداخل وتغنّي (ابنتها ريما)... ونستعيد الأعمال الطربيّة المنسيّة لوداد، فيما تعبر أمامنا حياة استثنائيّة، مرّت بمحاذاة المجد ولم تصبه. الليلة في اختتام المهرجان، نحن على موعد مع شادي زين الدين مخرج «على الأرض السماء». هذا الفيلم الروائي التجريبي الذي يختزن رؤى مدهشة، ومناخات فنيّة مشغولة بمهارة، يمكن تصنيفه أيضاً في مشروع «أركيولوجيا الحرب». المخرج الشاب يزور الحرب الأهليّة التي لم يعشها من خلال شخصيّة يوسف (رفيق علي أحمد) الذي هرب من صوت الانفجاز فانزوى عن العالم، وراح يعيش مع صور من الزمن السعيد. الزمن الواقعي يترك مكانه هنا لأزمنة افتراضيّة، طالعة من الذاكرة وتهويماتها، ولتداعيات بصريّة وحلميّة، وقصص مجهضة يتقاطع فيها الموت والرغبة والخوف والحنين إلى الزمن الضائع... فيلم ميتافيزيقي بامتياز، وحالات سرياليّة تؤطّرها مشاهد منمّقة وجميلة، بين خرائب هي مسرح الرؤيا وأرض المجاز.

«على الأرض السماء» ــ 7:30 مساء اليوم ــ «متروبوليس» (صوفيل ــ الأشرفية) ــ للاستعلام: 01/203485
www.neabeyrouth.org



بورجوازيّة الأشرفيّة «تدخل في الوطن»«بورجوازيّة الأشرفيّة» علّق أحد الزملاء الراديكاليين في حكم متسرّع، وقد هالته نسبة الفرنكوفونيّة المرتفعة في فضاء المهرجان. الحقيقة معقّدة أكثر من ذلك. لنقل إنّها شريحة مهمّة من المجتمع اللبناني، «تدخل في الوطن» ـــــ إذا جاز استعارة قصيدة شهيرة لحسن العبدالله ـــــ عن طريق مهرجان سينمائي. السينما مدخلاً إلى المواطنة: قد تكون تلك من سمات نجاح «مهرجان الأفلام اللبنانيّة»، وهي التسمية الجديدة للتظاهرة («نما في بيروت» يبقى اسم المؤسسة التي تنظّم الحدث).
شعار الدورة، «ممنوع»، مكتوب بالخط الأحمر في كل مكان، على بطاقات الدخول، وغلاف البرنامج، وفيلم التحريك القصير الخاص بالدورة، وجدران صالة «أمبير/ ميتروبوليس» التي تستضيف التظاهرة. نقرأ تارة ممنوع الدخول، وطوراً ممنوع التصوير. ويمكن الجمهور أن يفهم أن المجموعة الشابة التي تدير المهرجان، ضاقت ذرعاً ـــــ مثل قطاع كبير من المبدعين والناشطين في مجالات الثقافة ـــــ بوصاية «الرقابة» اللبنانيّة التي تفرضها قوانين بائدة تعود في فلسفتها أحياناً إلى... الإمبراطوريّة العثمانيّة!

شعار المهرجان «ممنوع» دعوة إلى تغيير قوانين الرقابة

وخصص المهرجان الذي يديره بيار صرّاف ويشرف على برمجته نديم تابت، ركناً لبعض أفلام «مهرجان أوبرهاوزن» الألماني من باب التبادل الثنائي، وركناً للأفلام التي حققها مخرجون عرب عن لبنان، أو مخرجون من أصل لبناني... إضافة إلى إعادة الاعتبار، في ركن «الميراث السينمائي» cinéritage، لبعض أرشيف «تلفزيون لبنان» (١٩٦٠ ــــ ١٩٨٠) الذي يجري العمل على ترميمه ونقله رقميّاً، بالاشتراك مع «المؤسسة اللبنانيّة للسينما» FLC، وبدعم فرنسي وأوروبي. وأخيراً عُهِد إلى لجنة تحكيم شابة ومنخرطة في الحراك الثقافي، باختيار الفيلم الذي سيفوز الليلة بجائزة المهرجان (يمنحها «بنك عودة» راعي التظاهرة): السينمائي إيلي خليفة، وهانية مروّة مديرة المهرجان المنافس «بيروت دي سي» وصالة للفنّ والتجربة «ميتروبوليس»، والناقدة ريما مسمار («المستقبل»).