غيّب الموت قبل أيّام في بيروت، المحلّل النفساني والكاتب المعروف صاحب «مدخل إلى الطب النفسي العربي» الذي درس المجتمع اللبناني في دوّامة الحرب الأهليّة، ورصد ظواهر أخرى من قضيّة الحجاب في فرنسا إلى شخصية بوش الابن، مروراً بالحرب الأميركية على العراق...

حسين بن حمزة
حين نشر عدنان حب الله كتابه «جرثومة العنف/ الحرب الأهلية في صميم كلّ منا» (1996)، كتب الشاعر صلاح ستيتية في المقدمة: «هذا كتابٌ تأسيسي». مع ذلك، يثبت المجتمع اللبناني براعته في النجاة من أي حساب. المشكلة أننا لم نقرأ جيداً ما رآه ستيتية خلاصة اجتماعية وعيادية ذكية وعميقة وقادرة على تقريب ما حصل في الحرب من أذهان الذين عايشوها، أو الذين وُلدوا بعدها ليكونوا شهوداً على سلمٍ رجراج ومهدّد باندلاعها مجدداً. الحرب لم تصبح خلفنا بعد. التروما التي أصابت الوعي اللبناني لا تزال تتلقى غذاءً كافياً وتكسب عمراً إضافياً. حب الله نفسه، قبل رحيله، حضر في السنوات الأخيرة جولات من العنف الأهلي الكامن الذي وجد ترجمات مختلفة لجرثومته: اغتيالات وتفجيرات واشتباكات وانقسامات طائفية حادة... كانت مرشَّحة لتكون فصولاً جديدة في كتابه.
بغياب حبّ الله (1935 ــــ 2009) يوم السبت الماضي، لم نخسر طبيباً نفسياً بارعاً فقط، بل فقدنا مؤلفاً وباحثاً في علم التحليل النفسي. ممارسو التحليل النفسي كثر، لكن قلة منهم تحظى بموهبة المزاوجة بين الممارسة العيادية والتنظير الفلسفي والاجتماعي. حب الله كان واحداً من مراجعنا المحلية النادرة في هذا السياق الذي يبدو مُنتَجاً غربياً بالكامل. كان لافتاً أن نجد موادنا وموضوعاتنا مأخوذة كأمثلة في علمٍ دأبنا على قراءته مترجماً أو في لغاته الأصلية. كان ضرورياً، من جهة أخرى، أن يجد المعجم الغربي للعلل النفسية ترجمات محلية في قاموسنا اللبناني والعربي. كان حب الله، بهذا المعنى، وسيطاً خلاقاً بيننا وبين أصول هذا العلم ومؤسسيه. قرأنا له، فصار فرويد ويونغ ولاكان أكثر قرباً ووضوحاً. بطريقة ما، جعلنا ذلك حديثين أكثر ومنتمين إلى مجتمعات حديثة. إذْ لطالما كرّر الراحل شكواه من صعوبة ممارسة عمله العيادي في مجتمع يعامل المرض النفسي كفضيحة، بينما تسيِّر معظم أفراده، وبينهم زعماء وساسة ومثقفون، أمراضٌ وعقد يُنظر إليها كأجزاء طبيعية من الشخصية اللبنانية... هذا إذا لم يُتباهَ بها وعُدَّت خصائص ومميزات إيجابية.

آخر إصداراته «إشكاليات المجتمع العربي» مع أستاذه المصري مصطفى صفوان
صرف عدنان حب الله 12 سنة من مسيرته المهنية في الحرب. عالج قتلة وضحايا، ميليشيا ومدنيين. كانت حياته مهددة مثل أي مواطن آخر. الحوادث العيادية والشخصية نُقلت لاحقاً إلى حيِّز التنظير من خلال إخضاع عناصر الحرب الأهلية لقراءة نفسية. كان ذلك بمثابة بطانة ضرورية لقماشة القراءات السياسية المتعددة التي تناولت لاحقاً أسباب الحرب ونتائجها. تناول صاحب «العنف الأهلي: دراسة نفس تحليلية» الغرائز والاستعدادات الجوانية والمظلمة التي تعوم تحت سطح الواقع المعيش. لم يستبعد غير المشاركين في الحرب من الحدث. بالنسبة إليه، لا وجود لسكان محايدين أو أبرياء، لا وجود إلا لمقاتلين صنَّفهم إلى فئتين: العسكريون، وهم المقاتلون الفاعلون، والمدنيون وهم المقاتلون السلبيون. هكذا وجد كل واحد منا مكاناً لنفسه على مائدة الخسارة: الأطفال والمراهقون والنساء والآباء والمخطوفون والمفقودون والمهاجرون... أو بحسب تعبيره هو: «لم أشاهد منتصرين، بل شاهدتُ فئتين من المهزومين: الذين خسروا حياتهم والذين فقدوا آمالهم».
رغم حضوره المركزي في فكر حبّ الله، لم يكن العنف الأهلي مجاله الوحيد. قراءة الحرب الأهلية، بوصفها جزءاً بديهياً من هويته وتكوينه الفردي والاجتماعي، أخذته إلى موضوعات أبعد وأكثر تنوعاً. ظل التحليل النفسي كامناً تحت كل قراءة جديدة، لكنه لم يعد المصدر الوحيد لتفسير الظواهر والوقائع المدروسة. الأرجح أنّ هذا الانفتاح حماه من القراءات التعسفية والفقيرة التي يقع فيها أصحاب الاختصاص المكتفون باختصاصهم وحده في تأويل ما يدرسونه. بهذه الطريقة، درس «التحليل النفسي من فرويد إلى لاكان»، وكتب «مدخل إلى الطب النفسي العربي»، وتناول من منظور نفسي وتحليلي «الحدث السياسي» ممثلاً في تفجيرات 11 أيلول وفي المقاومة والانتفاضة والعمليات الاستشهادية، فضلاً عن مستجدات كان يضيف إليها نكهة مميزة بوضعها على أريكة التحليل النفسي مثل: مسألة منع الحجاب في فرنسا، والحرب الأميركية على العراق، وشخصية بوش الابن...
وكان آخر إصداراته كتاب «إشكاليات المجتمع العربي» بالتعاون مع صديقه وأستاذه المصري مصطفى صفوان، درسا فيه عوائق انتشار التحليل النفسي وصعوباته في عالمٍ عربي يخاف أفراده من اللاوعي ويظنون أن الأمراض النفسية هي حصيلة طبيعية للمجتمعات الحديثة، وأنهم ــــ بالتالي ــــ في منأى عنها بسبب تخلفهم عن الحداثة. في غياب عدنان حب الله، بات عنفنا نفسه يتيماً.


تلميذ لاكان


ولد عدنان حبّ الله في صور (جنوب لبنان) عام 1935، درس علم النفس والأمراض العصبية والنفسية في باريس، وكان جاك لاكان أستاذه. درّس في الجامعة اللبنانية، وكان واحداً من مؤسّسي «الجمعية اللبنانية للتحليل النفسي» و«الجمعية الأوروبية للتحليل النفسي» فضلاً عن تأسيسه «المركز العربي للأبحاث النفسية والتحليلية» ورئاسته له حتى رحيله. ألّف العديد من الكتب، بالفرنسية: «جرثومة العنف»، «مصير الصدمة النفسية وكيفية التخلّص منها»، «لماذا عنف المراهقين»... وبالعربية: «التحليل النفسي من فرويد إلى لاكان» (دار الإنماء القومي)، «مدخل إلى الطب النفسي العربي (دار العلم ـــــ 2000)، «العنف الأهلي: دراسة نفس تحليلية» (دار العلم) و «إشكاليات المجتمع العربي» بالتعاون مع مصطفى صفوان (المركز الثقافي العربي ـــــ 2008).