من يحقّ له تنقيح القصائد الأخيرة التي تركها محمود درويش؟ بل هل كان يجوز نشرها أصلاً؟ بدعة تصويب «الأخطاء» العروضيّة المفترضة، تذكّرنا بكتاب كونديرا عن «الوصايا المغدورة»...
ياسين تملالي
لا يسعنا ونحن نحيي الذكرى الأولى لوفاة محمود درويش إلّا أن نتذكر الجدل الذي أثاره إصدار ديوانه «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي» في آذار (مارس) الماضي، في طبعة مليئة بـ«الأخطاء العروضية» حسب بعض الشعراء والنقّاد. وما كنا لنتذكره لولا أن تصويب هذه «الأخطاء» لم يحسم بعدُ منذ أن طلب الناشر، رياض الريس، من الشاعر اللبناني شوقي بزيع تصحيح الديوان تمهيداً لإصدار طبعته الثانية («الشروق الجديد» المصرية، 7 آب/ أغسطس 2009).
توفي محمود درويش فبُعث الخليل بن أحمد مُحدَثاً في صورة نقاد وشعراء تفعيلة (هكذا يسمّي بعضهم نفسه) انتبهوا إلى أن إعادة نشر بعض قصائد الديوان من دون تنقيحها إساءةٌ ما بعدها إساءة إلى سمعة كاتبها، «ملك الإيقاع والعروض» حسب تعبير شوقي بزيع. وكما تباين تعداد «الأخطاء» المكتشفة، تباينت الأقوال فيها: بعضهم أكَّد أن سببها يعود إلى كون النصوص التي تحتويها مجرَّد مسودات، والبعض الآخر جزم أنَّ سببها إساءةُ قراءة مخطوطات هذه النصوص لا غير. كذلك، تباينت التصويبات المقترحة لكلِّ واحد منها، ما أدخل الساحة الأدبية في نقاش عبثي ومحموم: لو لم يباغت الموت الراحل، تُرى ما الكلمة التي كان سيختارها بدل هذه أو تلك لـ«يستقيم الوزن» (ويبتهج الجميع)؟ ما الأفكار (أو المشاعر أو الأحاسيس) التي أراد أن يعبّر عنها في هذا البيت أو ذاك؟ وبدل أن يهتم المتجادلون بما يضيفه الديوان إلى الشعر العربي، فضّلوا الرجم بالغيب عما أراد صاحبه أن يقول ولم يقله.
قضية «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي»، تحيلنا أولاً على عدم احترام خصوصية الشاعر، من خلال نشر ما لم يوصِ صراحة بنشره، كأنّه بموته لم يعد ملك نفسه وأصبح كشعراء الجاهلية (عدا الصعاليك الشنفرى وتأبّط شراً) ملكاً لقبيلته الكبيرة، مثقفي الأمة. وتحيلنا القضيّة أيضاً، على حدود الحداثة الشعرية العربية كما كشفها هذا الهوس الشكلاني، بدءاً من انقضاض بعض الشعراء على ديوان درويش تصويباً (كأن كلاً منهم يخطّ قصيدته الخالدة وهو يعيد كتابته) وانتهاءً بتخصيص شعراء التفعيلة من دون غيرهم بمهمة تنقيحه (وما أغرب مهمة «تنقيح الشعر»).
هل أصبح شعر درويش، بوفاته، ملكاً مشاعاً تتصرف فيه «لجنة أصدقائه» (التعبير لرياض الريس، «الدستور» الأردنية، 4 نيسان/ أبريل 2009) بالنشر، وزملاؤه الشعراء بالحذف والإضافة؟ من يدري ما كان يدور في خَلده وهو «يقترف» ما اقترفه في حق العروض؟ ومن يجزم أنّه لم يقرر في لحظة ما من آخر لحظات حياته ألا ينشر بعض قصائد الديوان؟

ما هذه الحداثة التي تعود بنا إلى الجرجاني، وتعتبر الوزنَ أهم قواعد الكتابة الشعرية؟
لنقرأ ما كتبه إلياس خوري في «محمود درويش وحكاية الديوان الأخير» (الريس). ألا توحي الحكاية بشيء من الغرابة السينمائية (الناشر وصفها «بالبوليسية»، «الدستور»، 4 نيسان/ أبريل 2009)؟ رجال حزانى صامتون، يجوسون في بيت خاوٍ ويوغلون في أكثر أشياء الفقيد حميمية، مكتبه وأدراجه، بحثاً عن مخطوط ينشرونه في ذكرى ميلاده... في النصّ أقرّ إلياس خوري بأن الراحل لم يوصِ صراحةً بإصدار قصائده غير المنشورة، واعترف الروائي اللبناني بأنه تردد: «في غرفتي في الفندق شعرت بأنه عليّ أن أعيدها إلى مكانها في الدرج، غداً يأتي محمود ويقرّر كيف يرتب قصائده ويتعامل مع التعديلات التي يقترحها. قلت في نفسي إنّ علي التخلي عن هذه المهمة». وليته صدّق حدسه، فلو فعل، لكان قد جنّبنا هذا الجدل عن أحسن طريقة «لتصحيح» أشعار الراحل.
قد تبدو هذه الملاحظة غريبةً في عالم مهرجاني، الأدباءُ فيه شخصيات عامة يريد قرّاؤهم أن يعرفوا حتى أكثر خواطرهم حميمية وأقلها صلاحية للنشر. لكن لحسن الحظ، ما زال من النقّاد والكتّاب ـــــ والقرّاء أيضاً ـــــ من يرى نشر مسودات الأدباء من غير إذنهم قلةَ اعتبار لهم وعدمَ اعتداد بكونهم هم وحدهم مالكو أدبهم، لا جمهورهم ولا أصدقاؤهم ولا حتى ورثتهم. لا يزال هناك من يرى أن ماكس برود، بإصداره مخطوطات لفرانتز كافكا كان قد طلب منه إحراقها، لم يخدم الأدب بقدر ما خدم نفسه كمن يدين له العالم باكتشاف آخر ثمار عبقرية صديقه.
أمّا الجدل عن تصحيح قصائد محمود درويش، فهل يمكن أن تخطر على بال «كاتب حديث» فكرةُ تكليف «لجنة من الشعراء» بهذه المهمة (مقترح شوقي بزيع كما أوردته «الشروق الجديد» في 7 آب/ أغسطس 2009)؟ ألا يعني هذا المقترح ضمنياً أن كل شاعر كيانٌ منتهٍ، مسبور الغور، مكشوف الأسرار، لكل «مختص» القدرة على استنتاج ما «كان يريد قوله» لا من شيء سوى أسلوبه. لا يسعنا ونحن نقرأ هذا الكلام إلا أن نتذكر مرة أخرى ماكس برود وما نجم عن تصحيحه لمخطوطات فرانتز كافكا من تشويه لها وابتسار لتعقيد جمالياتها، كما أثبت ذلك ميلان كونديرا في كتاب جميل، «الوصايا المغدورة» (Les testaments trahis).
ثم كيف ستختار «لجنة الشعراء» الكلمات المناسبة لمواءمة هذه القصيدة أو تلك مع البحر المختار لها؟ علامَ ستستند لتعرف ما إذا كان الراحل، مكانَها، سيخط هاته الكلمة أو تلك وهذه الجملة لا غيرَها؟ وهل يمكننا اعتبار ناتج عملها شعرَ درويش أم شعره بتصرف؟ الحقيقة أن لجنة كهذه، إن كتب لها يوماً أن تتألّف، فلن تكون سوى تجلّ معاصر لأطروحة موغلة في القدم مفادها أن الشعر ليس إحساساً ولا فكراً ولا موسيقى داخلية بل، كما قال عبد القاهر الجرجاني في القرن الثاني عشر، «كلام موزون مقفّى دالّ على معنى»، وهذا ما رفضه الحداثيّون العرب، منذ بداياتهم الأولى.
ما هذه الحداثة التي تعتبر الوزنَ أهم قواعد الكتابة الشعرية؟ ألا يذكر أمراء الشعر الحر الحاليون ما عاناه أسلافهم من متعصبي العمودي؟ نسوا عقيدة الحداثة في خضم الجدل عن «أخطاء» العروض، كما نسوا حقائق معروفة في تاريخ الأدب الحديث، منها أن الشعراء، وهم يكتشفون الموسيقى الداخلية ـــــ في إطار الأشكال الكلاسيكية ثم خارجها ـــــ لم يكترثوا كثيراً لخلل الوزن والإيقاع (لا بودلير ولا رامبو كانا يباليان كثيراً برأي النقاد في تجاوزاتهما الإيقاعية). ولا يشذ الشعر العربي الحديث عن هذه القاعدة، فبدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وأدونيس لم يتوقّفوا عند أخطائهم العروضية. حتى الشعر الجاهلي لم يسلم من خلل الوزن، فلماذا لم يفكر أحد من القدماء، ولا حتى مكتشف البحور الشعرية العربية نفسه، في تصحيح امرئ القيس أو عبيد بن الأبرص وما أكثر تجنّيهما على العروض؟ هل يأتي يوم يطالب فيه البعض بتأليف «لجنة من شعراء العمودي» لـ«إعادة وزن المعلقات» حفاظاً على سمعة الأسلاف؟
إننا إذ ننتقد المبدع إلياس خوري لأنه لم يصدّق حدسه، ولم يُعد مخطوطات محمود درويش إلى مكانها، نشكره على تذكيره إيّانا في «حكاية الديوان الأخير» بأن الخليل بن أحمد ربما كان أكثر حداثةً من بعض معاصرينا من الشعراء والنقاد. أليس هو القائل: «الشعراء أمراء الكلام يصرفونه أنّى شاؤوا ويجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم (...) ويُحتجّ بهم ولا يُحتجّ عليهم»؟ صحيح أنه لم يدرج «أخطاء العروض» في قائمة المباحات الشعرية، لكن أليس من حقنا أن نضيفها، اثني عشر قرناً بعد مماته؟


الديوان الأخير

بعد رحيل محمود درويش، استحصل شقيقه أحمد، والمحامي جواد بولص، علي حليلة، مرسيل خليفة وأكرم هنية، على مخطوطات قصائده الأخيرة، فجمعها إلياس خوري في كتاب صدر عن «دار الريّس» بعنوان «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي ــ الديوان الأخير». أثار الديوان جدلاً كبيراً، بعدما أشيع عن وجود أخطاء فيه، وإعلان الريّس نيته إعادة طبع العمل ومقاضاة الروائي اللبناني...