بيار أبي صعب
يمكن أن نبدأ من دمشق حيث استهلّ حياته بدراسة الفلسفة. أو من قاهرة الحلم الناصري خلال السنوات الحاسمة التي أمضاها في معهد الفنون (1952 ـــــ 1958)، متتلمذاً على يد بيكار ويوسف كامل وعبد العزيز درويش، مشرّعاً أفقه على مرجعيّات الفنّ «الفقير» والشعبي، محتكاً بالأسئلة الجمالية الحاسمة التي ستطبع مسيرته. وتطول قائمة المحطّات: مدريد (1959)، الدار البيضاء (1959 ـــــ 1961)، برلين (1961 ـــــ 1963)... لكن لنتوقّف عند بيروت السبعينيات، تلك المحطّة الخاصة في مسار مدهش وخصب وتراجيدي، حمل ابن العائلة الكرديّة في وقت مبكّر من سوريا، ليصبح نموذجاً لـ«العربي التائه».
كانت المرحلة الخصبة تسمح بكل المشاريع... والأسئلة الجماليّة تذهب إلى مواجهة صداميّة مع القوالب «الكولونياليّة»، بحثاً عن هويّة خاصة. إنّه العصر الذهبي لبيروت. هنا تفتّحت تجربة برهان كركوتلي، وتسيّست، واتخذت الشكل الراديكالي الذي نعرف. كانت فلسطين في صلب الوعي وآفاق التغيير، فاتخذ منها عروسه وبوصلته حتى الرمق الأخير. وكانت بيروت هي المختبر العربي الذي استقطب

كانت مرحلة لكل الأسئلة الجماليّة والمواجهة مع القوالب «الكولونياليّة»
كثيراً من المبدعين، فاختبروا أشكالاً فنيّة متجذّرة في السياق الشعبي. عمل أيضاً في بيروت المصري حلمي التوني، وقد تُدهش كثيرين تلك القرابة البصريّة والروحيّة بين التجربتين. القصص الشعبي أفقاً للمخيّلة، وأوجاع الناس البسطاء وتطلعاتهم وذاكرتهم موضوعاً للفنّ. رسم الاثنان أحزان القدس وأحلام فلسطين وأبطال المخيّلة الشعبيّة. ثم عاد الثاني إلى القاهرة، وواصل الأول هيامه بين المنافي على طريق الثورة... وأنهى حياته حكواتياً في المقاهي الألمانيّة، وقد أفلتت شخصيّاته بالأبيض والأسود من لوحاتها إلى فضاء السرد، مثل أعماله التي سافرت بين المدن قبل أن تنبعث في جامعة بيرزيت.
إعادة اعتبار رمزيّة وقويّة إلى «فنّان الغربة والحرمان»، حسب عنوان كتاب خصّه به بُعيد رحيله زميله ومواطنه ورفيق السنوات القاهريّة، الفنّان الراحل غازي الخالدي (وزارة الثقافة ـــــ دمشق، 2004). لا فقط لأنّها آتية من أرض أحلامه فلسطين، بل لأن إعادة اكتشافه تجري على أيدي الجيل الجديد الذي ينتمي إلى «الفنّ المعاصر»، جيل عامر الشوملي منسّق المعرض وصحبه في «زان ستوديو» (رام الله).