الذاكرة الشعبية «سلة أيديولوجية متكاملة» تكرّس «العنف المشروع» ضد المرأة. هذا ما تراه كلاديس مطر في كتابها «تأخير الغروب: التقديس والتأثيم» (دار التكوين). صاحبة «خلف حجاب الأنوثة» تتوغّل في مواضيع مثل الحجاب، والجنس، والخوف، والعقل المقموع... لتحلّل ازدواجية «العقل النسوي»
خليل صويلح
الحجاب، الجنس، الخوف، العنف المشروع، العقل المقموع... عناوين أساسية تقترحها كلاديس مطر في كتابها «تأخير الغروب: التقديس والتأثيم» (دار التكوين ـــــ دمشق). وتتوقّف الكاتبة والقاصّة السورية عند «ازدواجية بنية العقل النسوي العربي» كمحصلة لركام ثقافة ذكورية متوارثة، وقوانين قسرية لم تتسق مع تاريخية العلاقة الملتبسة بين الذكر والأنثى، وانسياق الأنثى وراء منظومات جاهزة بما فيها المساواة بين الجنسين. وعلى هذا الأساس، محاولات إعادة تأهيل عقل المرأة من منظور حداثي باءت بالفشل، لغياب التفكير الحرّ والثقافة المدنية التي تمثّل وعاءً لاستيعاب تاريخ طويل من الخوف، و«العنف المشروع» تجاه المرأة. ذلك أنّ مفاهيم إنسانية مثل العدالة والحرية والديموقراطية ظلّت بمنأى عن مساهمة المرأة فيها، ما دام العقل الذكوري هو من يسنّ هذه القوانين لتُختزل مطالب النساء بالمساواة «في مملكة كل قوانينها على قياس الرجل وحده». وترى صاحبة «خلف حجاب الأنوثة» أنّ المشكلة تكمن في مفاهيم راسخة وتمييزية مثل نظرية «الجنس اللطيف»، لتأكيد الاختلاف الجنسي والبيولوجي بين الرجل والمرأة، سواء في الأساطير القديمة أو في المرويات الشعبية لجهة القداسة والبغاء. «فالطمث عقوبة إلهية، وجرح تكفيري مكرر ومستعاد شهرياً»، كما أن النموذج الأرقى للنسوية الذي تمثّله شهرزاد أتى تحت ضغط الخوف من مقصلة شهريار.

المرأة مختونة معرفياً قبل أن تُختن جسدياً
الحجاب إشكالية أخرى يواجهها عقل المرأة. وفقاً لما تراه مطر. هذه الظاهرة تتجاوز التصورات الإسلامية المتداولة إلى ما هو أعمق، «رغبة عقل المرأة لكي تكون ناظرة غير منظورة»، أي أن تتفرج على الدنيا من «ثقب وشاحها المسدل»، و«أن تنظر لا أن يُنظر إليها»، لعدم قدرة عقلها على التعامل مع القانون كتشريع من أجل حياةٍ أفضل. تالياً، فعقل المرأة يعيش ازدواجية تاريخية، ازدواجية العقل المقموع الذي يفضّل أن يكون «ناظراً لا منظوراً، متماهياً لا متفرداً». لعل هدى شعراوي التي ألقت بنقابها في البحر في العشرينيات، لم تكن تدعو إلى ثورة على النص بدافع تغيير الزي فقط، بل أرادت أن «تضع عقل المرأة على سكّته الطبيعية، وأن تنقّي رؤيتها من شوائب التابوات».
لكن كيف ترى المرأة صورتها في المرآة؟ تجيب كلاديس بأنّ المرآة كانت شريكةً في الفتنة ودلالة على مواجهة المرأة لذاتها وهويتها «حتى لو كانت مواجهة مجازية». الصورة المعكوسة للمرأة في المرآة تكشف مرايا عقلها لصورتها الداخلية المتشظية عبر تاريخ من الوهم المتراكم لمفارقة الهوية والاختلاف ومدلول التحريم، والنهي في خطاب مجازي يقوم على التلميح والتورية والتسييس والتقديس. لغة أفقدت عقل المرأة بوصلته نحو هوية جسدها، الجسد المتخيّل والمشتهى في خيال الذكورة. وإذا بالمرأة تتشظى إلى نساء عدّة بقصد «تأخير الغروب» والحفاظ على فتنة افتراضية في مرآة مهشّمة، كمحصلة لثقافة مستقرة حافظت على ثبات عقل المرأة في مرحلة المرآة، وما عبارة «المرأة ناقصة عقل ودين» إلا صورة عن هذا الخطاب التبريري الذي اقتنعت به المرأة نفسها مرجعية راسخة، وتبدو محاولات تجاوز هذا الاقتناع صعبةً، لعقل خائف ورثته المرأة جزءاً من بنية العقل العربي. هذا العقل الذي ينطوي في جزء كبير منه على مفهوم سحري وغيبي وطلسمي ـــــ التبصير في الفنجان المقلوب مثلاً ـــــ كأن بنية عقل المرأة ومخاوفها من الغيبيات ترقدان في قعر هذا الفنجان.
لكن ماذا عن حرية المرأة العربية اليوم؟ ترى الكاتبة أن هذه الحرية لم تنظّف بنية العقل النسوي من رواسب الخوف، لأنها جاءت بقرارات سياسية لا حاجة روحية. وبهذا المعنى، فالعقل النسوي الجمعي يعيش اليوم «فترة ما بعد الصدمة»، من دون أن يتخلى عن مخاوفه التاريخية المتراكمة، كالخوف من الوحدة والإقصاء والتهميش. المرأة لم تتخلص في بنية عقلها من الخوف من فكرة الوأد، ومن فكرة الحرية نفسها، فهي «مختونة معرفياً قبل أن تُختن جسدياً» نتيجة لتراكمات فقهية يصعب غربلتها من بنية هذا العقل، بينها فكرة الجنس، أحد أخطر التابوهات في العقل العربي عموماً، وخصوصاً العقل النسوي. ذلك أنّ الثقافة الجنسية المنقولة، بشقّيها الديني والفولكلوري، أخذت على عاتقها تدريب المرأة على «الحراثة الجسدية» كديمومة لتأليه وظيفة الجسد الذكوري «العارف» وإطاحة المفاهيم الأولى للجنس، حين كانت الديانات الأولى تقدّس المرأة. هكذا تستبعد كلاديس إسلاماً راديكالياً يخلخل هذه التصورات المتخلّفة للجنس التي لم تكن موجودة في أصوله الأولى، قبل أن يصير عنفاً مشروعاً، في ثقافة «معصوبة العينين». هذا العنف يتخذ اليوم أشكالاً أبعد من موضوعة الجنس، تتعلق بنظرة العقل السياسي العربي إلى المواطن الذي لا يفهمها إلا بوصفها نسخة مكررة لا تعرف الاختلاف بين فردٍ وآخر، وأنّ «شرف الرجل في عرضه»، إلى عشرات الأمثلة الشعبية التي تنظر إلى المرأة بدونيّة. الذاكرة الشعبية هي «سلة أيديولوجية متكاملة» في العنف الجسدي ضد المرأة. ولعل في مثل هذا المثل نختزل هذه الصورة المتوارثة «المرأة مثل السجادة كل فترة بدها نفض».