مدرسة يابانيّة عريقة تكتشفها بيروت أخيراًروجيه عسّاف في موسوعته المسرحيّة، تستضيف بيروت أحد معلّميه في الجامعة اللبنانية الأميركية

بيسان طي
يُحكى أنّ معلماً عظيماً من اليابان يُدعى زيامي موتوكيو وضع قبل 600 عام أُسس مسرح ما زال حتى اليوم يحتفظ بطقوسه. إنّه مسرح الـ«نو» الذي يُعرِّفه واضعه بأنه فنّ «على مفترق الأحلام، في مكان اللامكان». اليوم، تتعرّف بيروت إلى مسرح الـ«نو» عبر ناووهيكو أوميواكا، أحد أبرز روّاده الأحياء في اليابان. يدير هذا الأخير ورشة عمل تنطلق اليوم مع فنانين شباب، وتُختتم في 8 أيلول (سبتمبر) بعرض مسرحي في جامعة LAU (راجع البرواز).
يدخل الـ«شيته» إلى المسرح وعلى وجهه قناع. يرقص ويغني ويرتدي أقنعة خرافيّة وملابس مذهلة في أناقتها المشغولة بدقّة. هو أحد المؤدّين الرئيسيين في مسرح الـ«نو»، منوط به تشخيص تلك النصوص «المأساويّة» المتناقلة منذ ستة قرون، وتجسيد مختلف الشخصيات من الطفل إلى العجوز، مروراً بالآلهة والأرواح، علماً بأن ممثلي النو من الرجال. اللباس الذي يرتديه الممثل، والقناع الذي يضعه، والحركة التي يقوم بها، تدلّ على الشخصيةالتي يؤديها. أما الـ«واكي»، فهو العنصر الآخر في الاحتفال. إنه وسيط روحي قليل الحركة، يجسّد الكاهن أو الوزير غالباً، وجهه ساكن، لا يرتدي قناعاً. ووظيفته على الخشبة تشبه دور «السنّيد» إذا جاز التعبير: هو الذي يطرح الأسئلة على الـ«شيته»، ويعطيه الذرائع والمبررات كي يمثّل، ويرقص ويغنّي. العرض المسرحي يبدأ أصلاً بدخول الـ«واكي» إلى الخشبة، يقطع ممراً طويلاً ببطء ويتوقف عند ثلاث محطات تحدد كلاً منها شجرة حور. التوقفات يفهمها الجمهور ويدرك معنى الأحداث التي يدل عليها كل توقف. عندما يلاقيه المؤدّي الأساسي (الـ«شيته»)، يفهم الجمهور أنها روح الشخص الذي عاش القصة المأساوية في الماضي. يرافق الشخصيتين الرئيستين ممثلون ثانويّون، وتؤدي الفرقة الموسيقية أحياناً مقاطع مغناة ترافق تمثيل إحدى الشخصيات وتنطق بما يجول في خلد الشخصية.

يتدرب الممثل طوال حياته على شخصيّة معيّنة، كي يؤديها على الخشبة
ذاك الاحتفال الطقوسي، القائم على الاختزال والأسلبة والتكثيف ومنظومة دقيقة من الإشارات، يكاد يختزن روح المسرح. وقد اكتشفه الغرب في القرن العشرين فألهم مبدعين كباراً وما زال مصدر وحي كبيراً حتى اليوم. إنّه الـ Nô، الشكل المسرحي المنحدر من الـ sangaku الذي كان يجمع الحركات البهلوانيّة والرقص والسحر والإيماء، وغيرها من تقاليد مشهديّة قديمة مستوردة من الصين، وقد استوعب أيضاً تقاليد شفاهية عبر الملاحم التي نقلها الرهبان والرواة المتجوّلون.
حتى القرن الـ 14، كانت فنون العرض في اليابان تتوزع على شكلين: الدنغاكو، وهو تصميم رقصي دقيق قائم على مواضيع أدبية، وهو موجه إلى جمهور أرستقراطي، والساروغاكو القائم على التهريج والفظاظة والرقص المضحك (يُسمى رقصة القرود أو رقصة العفاريت)، وهو موجه إلى الجمهور الشعبي. ويُقال إنّ كانامي أحد الفنانين الشعبيّين، دمج كل الأشكال السابقة في قوالب جديدة، بعدما اكتشفه أحد السلاطين، وكان يدعى آشيكاغا. هذا الـ«شوغون» (وهو قائد عسكري وإقطاعي) أحبّ عرض كانامي، فاستقدمه إلى قصره وعيّنه «رئيساً للملاهي» في 1347، وواصل الطريق ابنه زيامي الذي انخرط في الفرقة منذ الـ 11، ثم أفنى حياته، وهو يعمل على كتابة نصوص النو ووضع قواعدها وأصولها النظريّة.
زيامي طوّر هذا الفنّ الذي اشتغل عليه أبوه، مازجاً بين رشاقة الدنغاكو وقوة الساروغاكو (كما نقرأ في الجزء الثاني من كتاب روجيه عساف «سيرة المسرح»). وترك مسرحاً شديد الأسلبة، ملؤه الطقوس المتقشفة والأزياء الفاخرة والأقنعة المختلفة الوظائف (138 قناعاً). كانت العروض تقدم للحكّام في العقود للأولى، ثم لمحاربي الساموراي. وفي 1591، صدر قانون يمنع إجراء أي تعديلات على نصوص الـ«نو». وعاش هذا الفنّ بين مد وجزر حتّى كاد يخبو، ثم عاد بقوّة مطلع القرن العشرين بفضل ممثلين كبار... واستطاع الاستمرار رغم أهوال الحرب العالمية الثانية.
يتألّف عرض النو التقليدي، أو «يوم النو»، من خمسة أجزاء تراوح مدة كلّ منها بين 30 دقيقة وساعتين: هناك أولاً «نو الآلهة»، ثم «نو المقاتلين» (الذين خسروا المعركة وعادوا من الجحيم ليحكوا قصصهم)، فـ«نو النساء» (عروض عن أرواح نساء جميلات، أو نساء النبلاء أو إلهة، وهناك أيضاً «نو النساء المجنونات، وترتكز على شخصية أصيبت بالجنون بسبب الغيرة أو موت قريب أو حبيب)، و«نو الحياة الطبيعية»، وأخيراً «نو الشيطان».
في ريبرتوار مسرح الـ«نو» نحو 250 عرضاً، كتب زيامي أكثر من نصفها. ويمكن تصنيفها في نوعين: الـ«جنواي نو» وهي عروض واقعية شخصياتها من البشر الأحياء، والأحداث تقع في زمن واقعي، والـ«موغن نو» الذي يستحضر شخصيات خيالية، إلهية أو أشباح... الأسلبة، تنوع فنون العرض، القصص القديمة، التقارب بين عالم الأحياء وعالم الأموات... كلها عوامل تزيد من جمال مسرح «النو» المحتفظ بأسراره التي تتناقلتها سلالات فنيّة. أما ممثل النو، فيمضي عمره يتدرب على تقنيات شخصية معينة، ويؤديها طوال حياته على الخشبة.


راجع كتاب روجيه عسّاف «سيرة المسرح أعلام وأعمال ـــ الجزء الثاني» (دار الآداب، بيروت) - للاستعلام: 01/786456
www.lau.edu.lb