قضيّة جاد المليح الذي ألغى مشاركته في «مهرجانات بيت الدين» بعد اتهامه بدعم إسرائيل وجيشها، ما زالت تثير السجال. هنا وجهة نظر مغايرة للكاتب والناشر سماح إدريس

سماح إدريس*
بعض الوزراء والصحافيين يوهمون الناسَ بأنّ جاد المليح ضحيّةٌ لتعصّب حزب الله ضدّ اليهود. فهل المليح محضُ «يهوديّ» مغربيّ مضلّل يحتاج إلى أن نُرشدَه بالحوار إلى سواء السبيل؟ أم هو مؤيّدٌ لإسرائيل بوضوح، وإنْ لم يخلُ من انتهازية فاقعة؟

***


أمامنا ثلاثُ إشارات تدلّ على دعم المليح لإسرائيل:
أولاً: مقابلته مع جيل سيتروك في 14/3/2008. فحين يسأله سيتروك عن الحفل الذي أقامه عام 2006 في القدس، يجيب بأنّ ما حدث «كان قويّاً جداً»: فقد عَرّف «كلَّ فريق عمله، المؤلّفِ من غير اليهود»، بإسرائيل، «فشكروني جميعُهم على تعريفهم بهذا البلد الرائع». ويضيف: «هذا أمرٌ علينا جميعاًً أن نفعله: أن نحثّ الناسَ على السفر من أجل الإحساس بهذا البلد وحُبّه. إنني أتحدّث عنه إلى أصدقائي كلّ يوم... وتحديداً جيرار دوبارديو المفتتن بإسرائيل وبتل أبيب...». وينقل المليح عن دوبارديو تغنّيَه بإسرائيل: «أيُّ بلدٍ هو هذا! إنه رائعٌ ولا يصدَّق! أيُّ أناسٍ مدهشين، وأيّ فنانين أصادفهم هناك كلّ الأوقات!» ويسارع المليح هنا إلى القول: «أنا شخصياً متعلّق جداً بتل أبيب، حيث لديّ كثيرٌ من الأصدقاء الإسرائيليين». بل يوسِّع امتداحَه لحلقة الأصدقاء المقرّبين لتشملَ المجتمعَ الإسرائيليَّ برمّته: «إنه مجتمعٌ صحّيّ جداً، ومتوازن، وحيّ». ولا ينسى في خاتمة المقابلة أن يقدّم دعايةً سياحيةً لدولة إسرائيل بعد زياراته «المتعدّدة» إليها: من مطعم «لاكانتينا» في تل أبيب، إلى «البلاج»، والإقامة في «زيمرمان»، وتمتيع النظر بطبيعة الجليل والنقب والبحر الميّت.
في إجابات المليح نلمس ما يأتي:
1) تبنّيه للرؤية الصهيونية المؤمتَلة إلى دولة إسرائيل. إذ كيف يَعتبر المليح المجتمعَ الإسرائيليّ مجتمعاً «صحّياً ومتوازناً وحيّاً»، لا مجتمعاً مريضاً وعنصرياً وقاتلاً؟ أيُعقل أنه لم يقرأ شيئاً عن فلسطينيي 48 الذين يعيشون «مواطنين» من الدرجة الثالثة، بل يتعرّضون لتهديداتٍ بالترحيل إنْ لم يوافقوا على يهوديّة الدولة؟ وهل خطر له أن يلتقي يهوداً عرباً داخل «إسرائيل»، أمثال راحيلا مزراحي أو شرون قومش أو سامي شطريت، ليشْكوا إليه انتزاعَ الصهيونية لكلّ قيمهم ورموزهم العربية لمصلحة أسلوب حياةٍ أشكينازيّ ـــــ أوروبيّ استعلائيّ؟ بل ألم يشاهدْ على الشاشات ما حلّ بشعبيْ لبنان وفلسطين وأهالي الجولان السوريّ جرّاءَ سياسات «البلد الرائع»؟ ألم ير التظاهراتِ المليونيةَ الكبرى في المغرب تأييداً للانتفاضة؟
لا أعتقد أنّ المليح عديمُ الاطّلاع، بل محضُ مفتئتٍ على الحقيقة، التي يعْلم بعضَها بالتأكيد (بحكم كونه عربياً) ولكنه يزوّرها خدمةً لصورته التي لا يريدها أن تتلطّخ في الغرب بلوثة «الإرهاب».
2) لكنّ الأمر الأخطر الذي تفْصح عنه إجاباتُ المليح هو ترويجُه للسفر إلى «إسرائيل»، ولا سيّما في الوقت الذي تتنامى فيه الحركة العالمية المطالبةُُ بـ«مقاطعة إسرائيل وسحبِ الاستثمارات منها وفرضِ العقوبات عليها». فإذ تتصاعد أشكالُ مقاطعة إسرائيل ثقافياً وأكاديمياً ورياضياً ودبلوماسياً واقتصادياً، يدعو المليحُ فنّاني العالم إلى القيام بزيارات إلى إسرائيل! ولعلّنا ننبّه إلى أنّ هذه الزيارات لا تقتصر على الإسهام في فكّ الطوق الإدانيّ من حول إسرائيل، وإنما تضخّ أيضاً أموالاً جديدةً في شرايين اقتصادها عبر المهرجانات الفنية والمؤتمرات العلمية. ومن هنا لم يكن غريباً أن يثنّي سيتروك على حديث المليح عن دعوة الفنانين إلى زيارة إسرائيل، قائلاً: «لقد أكّدتَ وجوبَ أن يأتي المزيد من الفنانين ـــــ اليهود وغير اليهود ـــــ إلى إسرائيل لكي يُظهروا للعالم أنّ هناك أناساً يعْرفون أن يضحكوا وأن يعيشوا». وبدلاً من أن يستذكر المليح في إجابته ألوفاً من أبناء جلدته العرب الذين لم يَعْرفوا إلا البكاءَ والموتَ بسبب جرائم إسرائيل، فإنه كرّر دعوتَه جميعَ الفنانين الفرنسيين إلى «تنظيم جولاتهم» إلى إسرائيل.
الإشارة الثانية إلى دعم المليح لإسرائيل هي ما كتبه في ألبومٍ دعائيّ أصدرتْه «جمعيةُ راحة الجنود الإسرائيليين» بعنوان: «بكلّ قلوبنا مع جنود جيش الدفاع الإسرائيلي». صحيح أنّ مدير أعمال المليح، السيد جلبير كولييه، نفى أن يكون المليح هو صاحبَ الصورة التي تُظْهره مرتدياً ثياباً عسكريةً إسرائيلية، ولكنْ فليفسّرْ لنا المليح وكولييه أمرين: أ ـــ لماذا تعطّل الوصولُ منذ أيام إلى الصور على ذلك الموقع؟ ب ـــ لماذا لم ينفِ المليحُ أو كولييه ما جاء تحت صورة المليح («المزعوم») من شهادة تقديرٍ منسوبةٍ إليه في حقّ إسرائيل؟ وقد ورد في الشهادة ما يأتي: «كلا، ليست هذه صورةً من فيلمٍ لسبيلبرغ عن ضرورة إنقاذ الجنديّ ابراهام، لأنه هو الذي ينقذنا ويحْرص علينا، على مُثلنا العليا، وأطفالنا، ومستقبلنا. الخيار في يدنا. أمّا هم، فلا خيارَ عندهم. فلنساعدْهم لكي يحْرصوا على أنفسهم، ويحْرصوا بالتالي علينا»!
ولكنْ، لماذا ينفي المليحُ شهادته أصلاً، وهو الذي أدلى بأسوأ منها في مقابلته مع سيتروك؟! من الواضح، في رأيي، أنّه لم يتنبّأْ بحملة تلفزيون «المنار» المؤثّرة، وربما ظنّ أنّ في مقدوره التعويلَ على «حضاريّة» اللبنانيين و«انفتاحهم»، بحيث يضع رِجلاً في تل أبيب ورِجلاً في بيت الدين: فيكسب من دعمه لإسرائيل حظوةً في الغرب، ويكسب من صمتنا عنه (بل تصفيقنا له) انتشاراً وأموالاً إضافية!

***


الإشارة الثالثة إلى دعم المليح لإسرائيل هي اشتراكُه في حملة تضامنٍ مع والد الجنديّ الإسرائيليّ الأسير جلعاد شاليط بمناسبة مرور 850 يوماً على أسره. المليح وكولييه لم ينفيا ذلك هنا أيضاً، لذا حُقَّ لنا أن نتساءل، ولو حرصاً على توازنٍ موهوم: ألا يستحقّ آباءُ عشرة آلاف فلسطينيّ أسيرٍ تعاطفَ هذا الفنان؟ ألا يستحقّ شهداءُ لبنان أن يواسي أخوهم الفنّان المغربيُّ أحبّاءهم؟ وهل شاليط طفلٌ بريءٌ ضلّ طريقه ـــــ هو وسلاحَه ـــــ في بلادنا؟

***



وأخيراً، ليت مستنكري «الاعتداء» على حرية جاد المليح يدْركون أنّ زمن التفرّد بـ«الحقيقة» قد ولّى. وليتهم يدركون أيضاً أنّ لعبة الدفاع عن حرية الانتماء الدينيّ وحرية التعبير لا تجدي حين يؤدّيها طائفيون ووكلاءُ وهّابية ونوّابٌ فاشيون. فالمليح مؤيّدٌ لإسرائيل كما بيّنّا، ولا علاقةَ لذلك بدينه ولا بجنسيّته. ومقاطعةُ حفلاته، وفضحُ انتهازيّته، واجبُ كلّ إنسانٍ مبدئيّ، وكلّ علماني وعروبي، قبل أن يكون واجبَ «المنار» وحزب الله.
إنّ النظام اللبناني، في شقّه اليميني الحالي، يطمح إلى التطبيع مع إسرائيل. وسلاحُه في ذلك: تجهيلُ الناس بالحقائق، ورميُ مقاومي التطبيع بمعاداة الساميّة، والافتقار إلى «الحضارة». أما «جنودُه» فجرائدُ وشاشاتٌ مستعليةٌ «سنوب»، وصحافيون يرْطنون بـ«حرية التعبير»، من دون أن يَفْقهوا أنّ المقاومة (بكلّ أشكالها) هي أبهى أنواع هذه الحرية!

* رئيس تحرير «الآداب»


مطالبة بالاعتذار!

استغرب عضو المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع غالب قنديل «ما شهدناه من استنفار وزاري وسياسي لتبرير دعوة جاد المليح، ولإدانة القناة التلفزيونية التي قامت بواجب وطني». وأشار الى «أنّ منطق المواطنية والإنسانية الصرفة يفرض على الوزراء تمام سلام (الصورة) وطارق متري وإيلي ماروني أن يعتذروا من ذوي الشهداء والضحايا والجرحى والأسرى الذين قالوا لهم أمس، إنّ مَن يعتبر قتلتهم رسل سلام، هو مجرد حامل رأي مختلف...».