حسين بن حمزةنقرأ مجموعة «طغراء النور والماء» (دار المدى) للشاعر العراقي عبد الزهرة زكي، فننتبه بسرعة إلى أنّنا في صدد شعر مفارق لما نقرأه هذه الأيام. ليس هذا حكم قيمة بالطبع. القصد أن ما نقرأه يُرينا مناخات ومذاقات غير متوافرة بكثرة في ما يُقبل الشبان الجدد على كتابته. ثمة أسباب عديدة يمكن سوقها للدلالة على هذه المفارقة التي يُشعرنا بها ديوان هذا الشاعر. لعل أول الأسباب يتمثّل في كون عبد الزهرة شاعراً عراقياً. لا نبالغ إذا قلنا إنّ ثمة تقاليد ومعايير واشتراطات خاصة تحكم الشعر العراقي وتسود فيه، وهي تقاليد أكثر قسوة وتطلّباً مما هو سائد في شعر بلدان عربية أخرى، وخصوصاً في المراكز التقليدية: بيروت ودمشق والقاهرة. وإذا أخذنا القصيدة اليومية كمثال مفرطٍ في انتشاره، بل في تفشّيه، في «الشعريات» العربية اليوم، فسنجد أن الشعر العراقي هو أقل هذه الشعريات انهماماً وهجساً بهذا النوع من الكتابة. الحقل المعجمي والبلاغي والتخييلي العراقي يعمل ضد اليومي الذي تقوم نماذج كثيرة منه على إدارة الظهر للجملة العربية الفصيحة، فضلاً عن أن بعض التجارب الجديدة تفعل ذلك لقلة موهبة ونقص في التربية اللغوية والإيقاعية. الشعر العراقي متين عادةً، وتربضُ تحت أغلب نصوصه ثقافة تاريخية وإيقاعية ومعجمية قوية. هذا لا يعني أن يكون الشاعر العراقي متفوقاً على أقرانه العرب، ولا يعني كذلك أن تجربة عبد الزهرة زكي قادرة، وحدها، على تمثيل الفكرة التي نطرحها، ولكنها تقدم فرصة لذلك.
تتضمن المجموعة، وهي الرابعة للشاعر، قصيدة طويلة بعنوان «نهار عباسي»، وأخرى أطول موزعة على مقاطع منفصلة ــــ متصلة بعنوان «رواية الهدهد». من العنوانين، يُستشفُّ جزء من الثقافة التي قلنا إنها تربض تحت النص الشعري. صفة «عباسي» تسحب القصيدة من التداول الراهن، وتغمّسها في التاريخ، إذْ نجد ذكراً لـ«عقيقٍ أزرق من بُخارى» و«كلامٍ من عمر بن أبي ربيعة» و«شاعرٍ من شيراز» و«تاجرٍ من أنطاكية» و«عبيدٍ من زنجبار»... حيث «غلامٌ غرٌّ/ كان قد فُتِنَ بوردةٍ / سقطت/ تحت قدميكِ/ من حاشية ثوبكِ/ فأكلها».
القصد أن العنوان يعقد صلاتٍ طبيعية مع مكونات وجغرافيا وتواريخ. الشواهد السابقة ترد في قصيدة حب، وكان في الإمكان كتابتها ببساطة على خشبة اليومي الجاهزة، ولكنها منجزة هنا على خشبة أخرى أكثر تعقيداً وتشعباً. هذا لا يعني أنها، أوتوماتيكياً، أفضل من اليومي، بل هي مناسبة لتذكيرنا بشعرٍ مفارق ومختلف.
يبني عبد الزهرة زكي قصيدته وفق تقنياتٍ وممارسات تضمن عبورها إلى القارئ مع حمولة بلاغية وفلسفية وصوفية وتاريخية. يقول لنا الشاعر إنه ابن شعر سابق وتراث قديم. الاستعارات المتحصِّلة تشبه المكونات التي استُخدمت في إنجازها. القصد أننا لا نجد سعياً حثيثاً إلى ابتكار صورٍ مفاجئة يُثبت أو يستعرض فيها الشاعر براعته. ما يحدث في القصيدة أهدأ من هذا. لنقرأ: «ستمرُّ بي .../ قال الفقير/ ذئابٌ كثيرةٌ/ ستمرُّ بي/ ذئابٌ أطعمتها/ وترفَّقتُ بها/ وتركتُ لها الطريدةَ والنبع/ ستمرُّ بي/ وتأخذني إليها/ بضربةٍ واحدةٍ شديدة الوقع/ ضوءاً شحيحاً أخفيتُه في قلبي/ ستمرُّ بي/ قال الفقير/ ذئابٌ كثيرة/ وقد استبدَّت بها غريزة النهش».