العالم المناضل الذي هجر الفلسفة وفخامتها الخادعة

عالم الاجتماع الفرنسي غرّد خارج السرب، وجمع بين الجهد النظري والممارسة الميدانيّة الملتزمة، واشتغل على نقد البنى المهيمنة... وها هو مؤلّفه المرجعي «الهيمنة الذكورية» يدخل المكتبة العربيّة وهي مناسبة للعودة إلى «عالم الاجتماع المقاتل» (بتعبير الإعلامي بيار كارل)، صاحب «أسئلة في السوسيولوجيا» الذي مضت سبع سنوات على رحيله

ديما شريف
في نصّ بعنوان «لأجل معرفة ملتزمة» نشرته «لو موند ديبلوماتيك» في عدد شباط (فبراير) 2002 بعد أيام على وفاته، يقول الباحث وعالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو إنّه ضروري في أيامنا هذه أن يلتزم الباحثون المستقلُّون بالحراك الاجتماعي، وخصوصاً «في مواجهة سياسة العولمة». سعى بورديو في نصِّه إلى إثبات أنّ النضال والعلوم الاجتماعية ـــــ بعيداً عن تنافرهما ـــــ يمكن أن يمثّلا وجهين لعمل واحد. كان بورديو يرغب في «التفكير في السياسة من دون التفكير سياسياً». وحاول، كما يقول أحد النقاد، «أن ينزعنا طيلة حياته من معتقداتنا كي يعيد الأمل إلى هذه المعتقدات». ألم يساند، مع جيل دولوز وآخرين، ترشيح الممثل الكوميدي كولوش لرئاسة الجمهورية الفرنسيّة في 1981، بهدف رفض احتكار السياسيين للتمثيل السياسي؟ بورديو الذي ولد عام 1930 درس الفلسفة في «المدرسة العليا» مع جاك دريدا. وخلال الخدمة العسكرية، ضُبط وفي حوزته نسخة محظورة من مجلة «إكسبرس» عن حرب الجزائر. هكذا نُقل إلى الجزائر حيث بقي سنتان... ثم سرعان ما عاد إليها بعد انتهاء خدمته ليتابع دراسته عنها، ويحاضر في كلية الآداب في عاصمتها. في الجزائر، تحوّل بورديو إلى عالم الاجتماع الذي نعرف، أو على الأقل بدأت مسيرته بعدما ترك الفلسفة و«فخامتها الخادعة»، كما يقول. أنجز أبحاثاً إثنية نتجت منها كتب مثل «سوسيولوحيا الجزائر» (1958) الذي تناول فيه مقاطعات القبائل، معقل القوميين، حيث كانت الحرب على أشدها. بعد الاستقلال، أصدر «العمل والعمال في الجزائر» (1963) تلاه «استئصال، أزمة الزراعة التقليدية في الجزائر» الذي تناول سياسة تجميع الجزائريين في مجموعات من الجيش الفرنسي. بعد عودته إلى فرنسا، استمر في الكتابة عن الجزائر فكان «تخطيط أوّلي لنظريّة خاصة بالممارسة» (1972)، و«الحس العملي» (1980). واعتمد في كتابه «الهيمنة الذكورية» على ما صادفه في منطقة القبائل (راجع الكادر أدناه).
بعد عودته إلى فرنسا، أصبح في 1960 مساعداً لريمون آرون في جامعة باريس. الصداقة التي جمعته بآرون انتهت بعد أحداث أيار/ مايو ١٩٦٨ بسبب آراء آرون الرافضة لهذه الحركة الاحتجاجيّة الواسعة التي عمّت فرنسا. وكان نشر كتاب «الورثة» (1964) الذي كرّسه عالم اجتماع بين أقرانه. تنقّل بين عدد من الجامعات قبل أن يعيّن أستاذاً في «كوليج دو فرانس» عام 1981. عمله في المجال العام جعل شهرته تتخطى العالم الأكاديمي، وعرّضته إطلالاته الإعلامية لحملات قاسية بسبب انتقاده دور الإعلام وتوجهاته التي لا تتسع للنقد، بل تسهم في قولبة الوعي حسب النمط المهيمن والقيم السائدة. اعتبرت نظريات بورديو وريثة علم الاجتماع الكلاسيكي. ويرى بعضهم أنّ أعمال صاحب «أسئلة في السوسيولوجيا» (1981) تجديد للنظريات السابقة. مثلاً، نقع على مفهوم ماكس فيبير عن أهمية القيمة الرمزية لشرعية كل سيطرة في الحياة الاجتماعية. كما طوّر مفهوم رأس المال انطلاقاً من نظرية ماركس لتنطبق على النشاطات الاجتماعية، وليس فقط على الاقتصاد. ونجد في نظريات بورديو أيضاً، حتمية إميل دوركهايم، وبنيوية كلود ليفي شتراوس. إلى جانب علماء الاجتماع الذين أثروا فيه، نجد فلاسفة تركوا بصمتهم على أعماله مثل هسرل وفيتغنشتاين. كما تأثر بباسكال واعتبر نفسه في كتابه «تأمّلات باسكالية» (1997) أنّه «باسكالي الهوى».
ابتكر بورديو مفاهيم حاول عبرها تخطي التناقضات التي تحكم العلوم الاجتماعية. نجد مفهوم «الهابيتوس» (HABITUS) وهو مجمل ما يقع عليه الإنسان من مواقف وخبرات من خلال حياته الاجتماعية. فالإنسان يكتسب طريقة تفكير معينة، ووسيلة تصرف تستمر معه. وهذه المكتسبات تحدد كيف سيتصرف مستقبلاً. هذا الهابيتوس يميزه «الحس العملاني» أو العملي.
المفهوم الآخر الذي توصل إليه بورديو هو «المجالات» التي يتكوّن منها العالم الاجتماعي، وهي تتمتّع باستقلالية نسبية عن الإطار الاجتماعي العام، وتمثّّل فضاءً للصراعات الحقيقيّة في سياق البنى الهرميّة ومواقع الهيمنة. كما تناول موضوع العنف الرمزي وهو القدرة على تأبيد علاقات سيطرة وهيمنة عبر فرض الاعتراف بها من الذين يتعرّضون للسيطرة. ويرى أنّها مكوّن أساسي في المجتمعات. كما تضم مؤلفات بورديو وتحديداً «إعادة الإنتاج» (1970) و«نبل الدولة» (1989)، تكوين الهرميات في المجموعات الاجتماعية والمكانة التي تشغلها الممارسات الثقافية في الصراع بين هذه المجموعات.
رحل بورديو قبل أن ينجز كتاباً عن إدوار مانيه الذي اعتبره الشخصية الأبرز في الثورة الرمزية التي أسّست استقلالية الفنّ الحديث. وكان قد أنهى «توطئة لتحليل ذاتي» الذي رفض اعتباره سيرةً ذاتيةً، بل محاولة لتقديم مسيرته الفكرية عبر النظريات التي اشتغل عليها. ورغم الجدية التي تميز بها، فقد علّق صاحب «بؤس العالم» (1993) في مكتبه، بطاقة معايدة تقدّم بها طلابه في مناسبة الميلاد، وقد استبدلت عليها عبارة Joyeux Noël (ميلاد سعيد)، بعبارة Joyeux Bordel (ماخور سعيد، والعبارة هنا يقصد بها فوضى العالم)!