الحقيقة الافتراضيّة معرضاً في «غاليري أليس مغبغب»نوال العلي
ألا يمكن توقّع معاني الكلمات التي نجهلها بمجرد رؤيتها، إذ تتراءى الكلمة فيبين معناها كأنّها تنعكس؟ لا توحي مفردة الانعكاس بالعربية بما توحيه مرادفتها الإنكليزية Reflection التي تتخذ معاني أخرى، كالتأمل والتفكير، كما تشير أحياناً إلى انتقاد الأشياء والتشكيك فيها. هل نتخيل نرسيس من دون صورته المنعكسة على الماء؟ نرسيس رديف الانعكاس في هذه الحالة. هل يمكن أن تنعكس صورتنا على زجاج واجهات المحال في الشارع، من دون أن نشكّك بمظهرنا، أو ننتقد عيوبنا هنا أو هناك؟ أليس الشك والتحديق وجهين للمفردة ذاتها؟
والانعكاس أيضاً مقطع بصري حيوي، لا يزال الشغل الشاغل للوحة والصورة على مرّ الحقب والتيارات. وها هو يمثّل المحور المشترك الذي يجمع بين أعمال تتجاور حالياً في «غاليري أليس مغبغب» ضمن معرض «الحقيقي الوهمي» Virtuellement Réel (يمكن أن نقول أيضاً: الحقيقة الافتراضيّة) يشارك فيه 30 فناناً من مدارس مختلفةلن نذهب إلى أوفيد كما ذهبت مغبغب في تقديمها للمعرض، إذ تربط بين فكرته المشتركة والمرآة كمصدر إلهام. ولن نلجأ إلى مرجعيات غربية للحديث عن الانعكاس في اللوحة. نفضّل العودة إلى بيت من الشعر الجاهلي لسويد اليشكري يقول صدره «تملأ المرآة وجهاً واضحاً». وهذا هو بيت القصيد في غالبية اللوحات والصور المعروضة. إنها المرآة اللوحة مهما كان تمثّلها، تُحس فيها بامتلاء العالم.
ومن المثير أن نعثر على هذا الوضوح الممتلئ في المقاطع المنتقاة هنا. مثلما هي لوحة رشيد بحصلي «انعكاس الانعكاسات المنعكسة» وليس ببعيد عما يوحي به عمل للتشكيلية لولو بعاصيري بعنوان مستعار من إنغمار برغمان «صرخات وهمسات». وليس رسم الأواني الزجاجية والمعدنية من أطباق وأباريق أمراً جديداً، لكنّها تتجدد هنا، بالمعنى العبثي القديم الذي ظهر في أواخر القرن السادس عشر في أوروبا. انعكاسات الصور على الأواني والبريق تثري حقيقة الغياب. كل شيء نظيف ولامع في غياب اليد البشرية التي فعلت كل هذا.
ورغم فرادة معظم الأعمال المعروضة، لن يكون بالمستطاع التوقف عند كل الفنانين المشاركين وهم ريما أميوني، كالين عون، لولو بعاصيري، راشد بحصلي، كريستوف بوناكورسي، روبرتو كابو، باتريك شامبو، كريستوف ديبوشير، أوغستو فولدي، جان جاك غيونيه، فاديا حداد، جيلبير الحاج، ايلي كنعان، سامي كركبي، هدى قساطلي، خواريز ماشادو، ادغار مازجي، غابريلا موراوتز، روجيه مكرزل، ملغورزاتا بازكو، محمد الرواس، غادة صاغية، جان بيار شنيدر، ميساك ترزيان، جيرار طعمه، جوني طوق، ايميليو طراد، آن ماري فيسكو، أنطوان فينست، مروان زغيب. لكن الفكرة الجامعة هي نفسها: الانعكاس هو عنصر أساسي في عملية الرؤية نفسها. انعكاس الضوء والعتمة والظلال والصور. هكذا يحتشد المكان ويبدو ملآن، فيما نصفه فارغ. في هذه الحالة، نلتفت إلى عمل محمد الرواس «انعكاس». العنوان ليس سوى تفصيل صغير في اللوحة: وجه في مرآة. أعلى اللوحة، تظهر عبارة «تعقيدات الانعكاس التي لا تحتمل». لكن لا، الانعكاس كثيراً ما يُخلي العالم، حين يبقى المرء ووحدته صورةً وطبق الأصل ليذكرنا بقول رفاييل ألبرتي «أنت في وحدتك حشد كثير». ومن هذا لوحة آن ماري فيسكو التي تعبّر عن فتاة لصيقة الوجه بمرآة. النظرة المنخفضة وبهتان الألوان يضاعفان الوحدة لتتحوّل إلى حشد من الانطواء.
ومن المدهش أن يحاول الفن تطبيق فكرة الانعكاس على الزمان، لكونه المعطى البعيد عن متناول المخيلة البصرية. ينطبق ذلك على لوحة غادة صاغية «سيارتي البورش وأنا». وهي لوحة فتاة تنعكس صورتها على نافذة سيارتها. الألوان شديدة الواقعية، ورغم ما توحيه ملابس المرأة من صغر العمر، فإنّ ملامح الوجه تدل على أنّها ليست كذلك. ويتأكد الإحساس بأنّ ثمة خدعة تجلب السعادة، حين تشاهد صورة الفنانة الحقيقية، وتتأكّد أنّ اللوحة ليست إلا بورتريه شخصياً لفتاة مولودة سنة 1958 بجاكيت جلد لامع وبلوزة قصيرة تكشف بطناً مشدوداً، وسروال جينز بخصر خفيض وشعر أشقر مقصوص كغلام. هذه هي المرأة في اللوحة وهي تحدق بزجاج سيارة، لكن تلك الثنية في الخد والتجعيدة الخفيفة، ليستا إلا انعكاساً للزمن. أما فائض اللمعان وبريق الانعكاسات فهما التلاعب به. أو ربما تجسيد لزمن آخر دفين في الجسد المتحفّز في اللوحة. في لوحة صاغيّة، كل شيء يتعلق بهذه السترة القصيرة والشباب المصقول جيداً، كأنه سيارة بورش مغسولة للتو.
روجيه مكرزل يحيلنا على مقولة بيكاسو «من يرى الوجه البشري بشكل صحيح؟ المصوّر، المرآة، أم الرسام؟». إذ قدّم عملاً بالأسود والأبيض بتقنية مختلطة من التصوير والرسم واستخدام الحبر على الألمنيوم. أنت أمام وجه أو سحنة خطرة وصامتة، هي نفسها تظهر بذقن غير حليق في نسختها المرآوية. لم تنسَ مغبغب أن تذكر الزوّار بانعكاسهم الشخصي. هكذا، كانت المرايا المستطيلة الصغيرة تباغتهم بين أعمال وأخرى لتذكّرهم بالوجه الذي يكونونه يومياً.


حتى 14 آب (أغسطس) المقبل ــــ «غاليري أليس مغبغب» (الأشرفيّة): 01/204984