البحر بلغته الأم والبحر مترجماً إلى لغة زخرفية.... تباين الإشارات والرؤى والأساليب بين فنّان لبناني وآخر مالي التقيا في معرض بيروتي
حسين بن حمزة
«بحرنا» معرض مشترك لفيصل سلطان وجان بيار الوتشي في «غاليري جانين ربيز». يطلّ الرسامان على الأبيض المتوسّط من ضفتين متقابلتين: سلطان المولود في طرابلس والمقيم في بيروت، وألوتشي المولود في مالي والمقيم في فرنسا. الاتفاق على رسم موضوع واحد يصنع للمعرض هوية مكشوفة، لكنّ الرسامَين يقاربان الموضوع من وجهتي تشكيلٍ مختلفتين.
ما نعاينه في لوحات سلطان الـ 15 هو بحر حقيقي ومرئي وملموس. الانطباعية هي سيدة هذه الأعمال. لا ادعاءات فلسفية أو لونية معقدة فيها. البساطة كاملة تقريباً. لا نجد خطوطاً وتفاصيل كثيرة. هناك مدى شاسع ومساحات مفتوحة. اللون نفسه بلا طبقات وبلا تأويلات زائدة. كل جزء أو تفصيل من اللوحة منفَّذ بضربة إكليريك واحدة. لا سماكات أو خدوش على قماشة اللوحة. الأزرق بمشتقاته وتدرجاته يحتل أغلب المساحات اللونية. المنظر البحري يستدعي السماء الزرقاء فيزداد الأزرق حضوراً وكثافة. هناك أزرق نهاري مشع إلى جوار أزرق ليلي أو أزرق نهاية النهار المعرَّض لمشحات الغروب الصفراء والبرتقالية. يعيدنا فيصل سلطان إلى لوحة «المنظر الطبيعي». الطبيعة هنا حكر على البحر المرسوم من زوايا متعدِّدة. نرى مقطعاً منه من شرفة منزل، أو ساحلاً بحرياً مزروعاً بأشجار نخيل مائلة، أو نراه من خط الأفق فتبدو المدينة (بيروت) أفقاً مقترحاً كأنَّ البحر هو الذي يرى المدينة ويطلُّ عليها... لوحات سلطان هي تأملات ذاتيّة في مادة البحر. الرسم هو ترجمة لونية حرة لهذا التأمل. هناك محاولات للقبض على صورة البحر الواقعية والمتخيلة، لكنّ الرسام لا ينجو من إشكالية التكرار التي قد تخفف من تفاعل المتلقِّي مع المنجز اللوني، وخصوصاً أن المدلولات المتضمَّنة في اللوحات واضحة وقابلة للنفاد أحياناً.
المساحات المفتوحة في أعمال فيصل سلطان تختفي كلياً في أعمال جان بيار الوتشي. المساحات هنا ممنوحة لعالم ميكروي مكتظ برموز وحروف وأشكال وخطوط متناهية في الصغر. كأن ما نراه هو صورة مكبرة لخلية مرئية تحت المجهر. المشهد نفسه يتكرَّر في لوحات الوتشي الـ 25 المنفَّذة بالزيت على المعدن. كأنَّنا أمام اقتراح تجريدي يُترجم فيه البحر إلى منمنات وزخرفيات لا نهاية لها. نشعر أحياناً بأنَّنا أمام فسيفساء حرَّة لأشكال متجاورة ومضغوطة، ونشعر كذلك بأننا نرى مقطعاً لكائنات وطحالب بحرية ميكروية. هناك أسلوبية واحدة في إنتاج اللوحة. التكرار يحوِّل الرسم إلى ممارسة حرفية صرفة. لن يبالغ المشاهد إذا اعتقد أنه أمام استنساخ تشكيلي، لكن هذا لا يقلل من أهمية وخصوصية النبرة التشكيلية التي يشتغل بها الوتشي. التأمل في البحر خاضع لقراءة سابقة على التأمُّل نفسه. البحر يخضع لشروط الحرفة ويحضر عبر منمنماتها وتطريزاتها الهندسية والتجريدية الصغيرة. اللون هو الناجي الوحيد في هذه المعادلة، إذْ إن المتلقي لا يفقد الانطباع البحري، أو المائي على الأقل، الذي لا تكفُّ اللوحات عن إرساله وتأكيده.
البحر في عنوان المعرض ينقسم بسرعة إلى بحرين. بحر أول مرسوم بلغته الأم في أعمال فيصل سلطان، وبحر ثانٍ مترجم إلى لغة تجريدية وزخرفية. لدى سلطان، مديح لوني لبحر واقعي ممتد وشاسع وبلا تفاصيل، مقابل مديح تجريدي لبحر متخيل وفق معادلات حسابية وحرفية دقيقة عند الوتشي. لعلَّ هذا الانقسام عائد إلى التربية البصرية التي يدين بها الرسامان. بحسب هذا التأويل، يبدو فيصل سلطان أكثر انتماءً إلى سلالة لونية محلية ومشرقية، وهو ما يتبدى في عدم الاكتراث بالتجريب، والاستسلام لتأملات شعرية ورومنطيقية وصوفية في تفسير البحر. أما جان بيار الوتشي، فيبدو أكثر تجريباً وحداثة. إنهما ينظران إلى البحر المتوسط نفسه، ولكن المشهد مختلف بحسب الضفة التي يقف عليها كل واحد منهما.


حتّى 23 الحالي ـ «غاليري جانين ربيز» (الروشة ــ بيروت). للاستعلام: 01/868290