يتوقّف عصام زكريا في«أطياف الحداثة: صورة مصر الاجتماعية في السينما» (المجلس المصري الأعلى للثقافة)، عند أحداث تاريخية مفصلية من ثورة يوليو، وهزيمة 67... إلى كابوس التطرف، عبر تحليل الأفلام المصريّة على امتداد نصف قرن
محمد شعير
عندما لا تجد راقية إبراهيم في فيلم «زينب» ( 1952) عوناً من أسرتها التي تبخل عليها بالعلاج، تجمع أشياءها وتقول لأهلها قبل أن تذهب إلى المستشفى: «إللي ملهوش أهل، الحكومة أهله». في مشهد آخر في فيلم «اللمبي» (2002)، يستوقف شرطي الشاب محمد سعد الذي يكون عائداً إلى بيته مترنّحاً وهو يغنّي أغنية أم كلثوم الشهيرة «وقف الخلق ينظرون جميعاً» ويطلب بطاقة هويته فيجيبه: «مش معايا بطاقة». وعندما يسأله الشرطي عن السبب، يجيبه بأنه ليس لديه جيب خلفي في البنطلون!
مشهدان تفصل بينهما خمسون عاماً لكنّهما يلخّصان ما أصاب الشخصية المصرية من تحولات. وهذا ما يرصده الناقد السينمائي عصام زكريا في «أطياف الحداثة: صورة مصر الاجتماعية في السينما» («المجلس المصري الأعلى للثقافة» ــــ القاهرة). يتوقّف الكتاب عند أحداث تاريخية مفصلية في مصر: ثورة يوليو، هزيمة 67، حرب أكتوبر، اغتيال السادات وسطوة الجماعات الدينية... وكابوس التطرف. أحداث أصابت المجتمع بتحوّلات عنيفة. ولم توفّر... السينما. هكذا، يخلص المؤلف إلى أنّ «الحداثة لم تكن سوى طيف مرّ بخاطرنا وخطابنا الثقافي أحياناً، وبشعاراتنا ومشروعاتنا الاجتماعية والسياسية أحياناً أخرى». رغم أن الحداثة لم تكن سوى طيف، فإنّ حياتنا طوال القرنين الماضيين كانت تتمحور حول هذا الطيف الذي تحوّل كابوساً: «كابوس التخلف» ليصبح المجتمع مثل «مسخ فرانكشتاين مرقعاً من أعضاء مختلفة المصادر ومتنافرة الأصول تعجز عن أن تشكّل كياناً متّسق الهوية». إذاً، يحاول المؤلف البحث عن هذا «الطيف» وتقديم إجابة عن سؤال الهوية وحلم الحداثة المجهض.
بدأت ثورة يوليو (1952) ببيان يحدد أهدافها السياسية. أهداف شهيرة صارت كليشيهات تُدرَّس لتلاميذ المدارس: «القضاء على الاستعمار والإقطاع، تأسيس حياة اجتماعية جديدة، وتأسيس جيش قوي». وبعد 40 يوماً من قيام الثورة واستيلاء الضباط على الحكم، صدر بيان رسمي موقَّع من رئيس الجمهورية محمد نجيب بعنوان «الفن الذي نريده» حدّد طبيعة الفن الذي يريده الثوار. ولم يتضمن البيان ـــــ كما يقول زكريا ـــــ «كلاماً عن الثقافة ودور الفن في رفع مستوى الذوق الحضاري والحس الإنساني...». بل كانت الثورة مثل «شيخ كُتاب» يجلس ممسكاً بعصاه ليحفظ التلاميذ ما يريد. رغم ذلك، حاول السينمائيون التعبير عن «حلم التغيير الاجتماعي». وأبرز نموذجين قدمتهما الثورة عن «مشروعها» كانا صلاح أبو سيف وعبد الحليم حافظ. الأول يراه النقاد «أهم مخرج أنجبته السينما العربية». تبنى أبو سيف في أعماله فضح مساوئ النظام الطبقي غير الديموقراطي وآليات السوق وإلحاح الغريزة، كما أسهم في دعم النظام الاشتراكي. ورغم أنّ أفلامه لم تبلغ حدّ القطيعة مع النظام السائد، فإنّه كان أحد ضحايا النظام. بعد هزيمة 67، أخرج «القضية 68» الذي نادى بضرورة «هدم البناء لإعادة بنائه على أسس سليمة». فتعرّض الفيلم لضربات رقابية موجعة وفشل تجارياً ونقدياً، ما دفع أبو سيف وآخرين إلى الإحباط واليأس.
أما عبد الحليم حافظ، فتعبّر أفلامه الـ 16 عن 15 عاماً من أهم سنوات تاريخ مصر الحديث (من الثورة حتى النكسة). في معظم الأفلام، يظهر «العندليب» في دور اليتيم الباحث عن الحب، أو الباحث عن أبيه الحقيقي أو عن أب بديل. في هذه الرحلة «يجسّد عبد الحليم حلم الجميع بالعثور على الزعيم الأب الجديد». وهذا ما يستدعي «الثورة» على الأب القديم ونظامه. لكنّ الهزيمة جاءت لتعصف بالجميع. هكذا، نجد انهياراً في علاقة ابن الثورة بأبيه في آخر أفلام عبد الحليم «أبي فوق الشجرة». هنا، «يتخلى عبد الحليم عن رقّته...» و«يسقط الأب في نهاية الفيلم كإدانة نادرة في السينما المصرية لصورة الأب المثالية عادةً». إذن كانت هزيمة 67 نقطةً مفصليةً في انهيار «حلم الحداثة المصرية». لذا تحظى بالجانب الأكبر من التحليل في الكتاب. كما تبدو مصر مثل «بناية» انهارت بسبب «مقاول فاسد» وهي الفكرة الرئيسة التي دارت حولها أفلام ما بعد النكسة. صورة «البناية» ارتبطت بصورة مصر القوية الشامخة التي شيّدتها الثورة ورمزت إليها ببنائين عملاقين طولاً وعرضاً هما برج القاهرة والسد العالي.
فكرة البناية المنهارة تتضح في «القضية 68» لصلاح أبو سيف، وهو أول فيلم يتناول الهزيمة. المدهش هو «ما تعرض له هذا الفيلم وفيلم آخر هو «المتمردون» من بطش رقابي فيما مرّ بسلام شريطان آخران يحملان نقداً أقسى للنظام الناصري، وهما «شيء من الخوف» و«ميرامار». ويفسّر المؤلف ذلك بأنّ المسؤولين كانوا مستعدين لتقبل نقد اليمين، فيما كانوا حساسين تجاه نقد يأتي من يسار الحكم. في تلك الحقبة، أنجز شادي عبد السلام فيلمه «المومياء» ليقدّم أرقى مرثية لحلم الحداثة في مصر.
انتصار أكتوبر لم يغير كثيراً في توجه السينما، فقد كان «انتصاراً حزيناً» كما أنّ الدولة أرادت أن تكون «المتحدث الرسمي باسم الحرب، وأن التاريخ الرسمي هو التاريخ الوحيد المسموح له بالظهور»، ولهذا لم تُنتَج أفلام مهمّة تتجاوز الفكرة الدعائية عن تلك الفترة حتى الآن.