أبو يوسف ونهاد وأم حسن... في مهبّ العولمة
الباحثة اللبنانيّة تأخذنا إلى فضاء مديني، ما زال مغلّفاً بشرنقته التقليدية، في قلب العاصمة اللبنانيّة. «حي الصنائع في بيروت» دراسة ميدانيّة، أداتها الأساسيّة الصورة، توثّق لذاكرة مكان وحقبة. وتدق أيضاً جرس الإنذار: إنّ العولمة لن توفّر هذا الحيّ البيروتي العريق. وكل شيء يبدأ من حديقته الشهيرة!

زينب مرعي
من حديقة الصنائع كانت البداية. في الجوّ الخاص لهذه الحديقة وشخصياتها وزوّارها الدائمين والعابرين، وجدت باسكال فغالي موضوعاً شيّقاً للدراسة. من مقاعد الحديقة، بدأت العمل على أطروحتها في الأنتروبولوجيا البصريّة التي أعادت إصدارها أخيراً في كتاب بالفرنسيّة، عنوانه «حيّ الصنائع في بيروت» (منشورات «اﻟﻤﻌﻬد الفرنسي ﻟﻠﺸرق الأدنى»)، وقد أرفقت به أسطوانة رقميّة DVD تحتوي على ستة أفلام قصيرة من أصل 17 شريطاً وثائقياً صوّرتها فغالي، عن منطقة الصنائع. الحديقة كانت مدخل فغالي إلى الحيّ. أرادت أن تتعرّف إلى المنطقة وتدخلها من دون أفكار مسبقة، فانتقلت للعيش هناك أربع سنوات. في الأشهر الستة الأولى، ظلّ الحيّ منطوياً على نفسه، لم يقدّم شيئاً لباسكال، فاتخذت من أحد أصدقائها وأبنائه مرشداً لها. مع الوقت، بدأ أهله يعتادون عليها وعلى وجودها، فتقبّلوها تدريجاً، وفتحوا لها أبواب عالمهم. اكتشفت منازلهم وعاداتهم وطقوس رمضان والأضحى، وصوّرت طقوس «ليلة القدر» في الجامع. من هنا دخلت الباحثة إلى حياة أهل الحيّ الذي اكتشفت شيئاً فشيئاً بنيته التقليديّة، ففغالي تجمع في عملها بين الصورة والكتابة. لكن تبقى الصورة هي الركيزة التي قام عليها النصّ. غير أنّ الاثنين يتكاملان في تصوير قصة منطقة الصنائع وعاداتها وتقاليدها. تتناول الباحثة هذا المكان من خلال الأشخاص، وتتبّعها لحياتهم اليوميّة، وكيفيّة عيشهم.
هكذا نكتشف من خلال الكتاب والأفلام الوثائقيّة، أنّ الصنائع منطقة ما زالت تحافظ على تقليديّتها. عائلات الحيّ الداخلي تحافظ على سلطتها، وتقسّم مصالحها بما يراعي ألا يتعارض بعضها مع البعض الآخر. عائلة طبّارة تهتم بالطقوس الرمضانيّة، مثلاً، بينما عائلة الموصلّي تهتم بطقوس الأضحى... كذلك تشير الباحثة إلى أنّ الكثير من المهن تنتقل بالوراثة في هذه العائلات. وما زال في المنطقة العديد من أصحاب المهن القديمة، كالرتّى والمنجّد وغيرهما من ذوي المهن الحرفيّة.
قد لا تكون تقليديّة هذا الحي النقطة التي تميّزه عن الأحياء البيروتيّة القديمة. ما يميّزه هو حديقته التي أسّسها مع حيّ الصنائع السلطان العثماني عبد الحميد الثاني في أواخر القرن التاسع عشر، وفق الشقّ الأول من الكتاب الذي يتناول الوقائع التاريخيّة لهذه المنطقة. وتضيف الباحثة أنّ العثمانيّين ـــــ ببنائهم مدرسة للفن وتعليم المهن (من هنا اسم المنطقة) والحديقة ـــــ أرادوا أن يُظهروا وجهاً حضارياً لهم. لذا فإن الحديقة كانت تمثّل دوماً رئة المنطقة، ونافذتها على الخارج وسبيلها إلى الانفتاح على العالم والتواصل معه. ترى فغالي أنّ الحديقة التي كانت قبل الحرب اللبنانيّة مكان تسلية للبورجوازيين، وتحوّلت بعدها إلى مساحة شعبيّة للمسلمين خصوصاً، تضفي على المنطقة نوعاً من الرقيّ وتفتحها على باقي أجزاء المدينة، وخصوصاً ضاحيتها الجنوبيّة. فكون الحيّ لا يزال قائماً على البنى التقليديّة، لا يعني أنّه منغلق على نفسه. داخل الحيّ، بطولة الأفلام هي للجماعة في أغلب الأحيان، لكن البطولة المطلقة هي لشخصيات الحديقة. شخصيات سينمائيّة بامتياز، كانت الحافز الأول لفغالي لدخول المنطقة. أبو يوسف، صانع السلال، نهاد، بائعة القهوة وأم حسن. يحتلّ كلّ واحد منهم مكانه في الحديقة التي أصبحت بالنسبة إليه مكاناً ضرورياً للعيش. أم حسن التي تعيش مع ابنها البكر، ترفض زوجته إدخالها إلى المنزل إلّا ليلاً لتنام، فتقضي نهارها كلّه على مقعدها في الحديقة. أبو يوسف يخبر الكاميرا كيف أنّه وجد يوماً زوجته مع عشيقها فقتلهما معاً، ثم قضى نصف عمره في السجون اللبنانيّة، فالمعتقل الإسرائيلي. ونهاد بائعة القهوة التي تدور وتدور كلّ يوم لتبيع قهوتها على الزوّار، تعرف زوايا الحديقة، وهي صلة الوصل بين أم حسن وأبو يوسف.
تلاحق باسكال فغالي شخصياتها حتى النهاية، لتبرز من التغيّر الذي طرأ على حياتهم من جرّاء تبدّل أحوال المنطقة. منذ زيارتها الأولى لحديقة الصنائع والمنطقة عام 2000 ـــــ وبعد سبع سنوات من العمل على المشروع ـــــ أشياء كثيرة تغيّرت هنا. النسيج الاجتماعي بدأ يتمزّق، والحارة تفقد تقليديتها تدريجاً، فيختفي الكثير من المظاهر التي صوّرتها الباحثة قبل فترة زمنيّة قصيرة، كنحر الخراف في الشارع في عيد الأضحى. تهتم فغالي بهذه التغيّرات السريعة، وتضيفها إلى عملها الذي أصبح يضمّ ممارسات وطقوساً من الذاكرة، بحسب ما تقول.
تبدو تغيّرات الحيّ طبيعيّة، لكن الخطير أن تطال نيّة التغيير إزالة الحديقة. وقد اجتمع في حفلة توقيع كتاب باسكال فغالي قبل أيّام في «مكتبة البرج» البيروتيّة، عددٌ من الناشطين الذين شاركوا في الاعتصام الشهر الماضي ضدّ إزالة الحديقة. هل هناك أمل في إنقاذ هذه الرئة؟ نسأل أحدهم؟ «الخطر هو تسييس قضيّة الحديقة، كما يجري مع كلّ شيء في لبنان. وقد لمحنا بعض بوادر هذا الاحتواء عشيّة الانتخابات النيابيّة». الحديقة فضاء عام، وهي من حق كل مواطن لبناني. بين المعتصمين الذين جاؤوا إلى البرج، باربرا، المواطنة الألمانيّة المقيمة في لبنان التي ترتاد الحديقة لممارسة رياضتها اليوميّة. أما محمد ونجوى المقيمان في المنطقة أباً عن جد، فلم يسمعا أبداً بقرار تحويل الحديقة إلى مرأب للسيارات. وتسأل نجوى بنبرة مستغربة: «بلديّة بيروت تريد إزالة الحديقة؟! لا، لا أعتقد ذلك». في هذه الأثناء باسكال فغالي ساهرة، وكتابها وثيقة نادرة قد تدفع الكثيرين إلى التفكير.