عوّدتنا السينما الإيرانية على محو المسافات بين الواقع والخيال. منذ الأعمال الرائدة لعباس كياروستامي («أين بيت صديقي؟»، «طعم الكرز»...) ومحسن مخملباف(«الدرّاجة»، «قندهار»...)، تأسّس ضمن السينما الإيرانية تيار فني سعى للتقريب بين السينما التوثيقية والروائية، وأصبحت له تأثيرات فنية تجاوزت حدود إيران. لكن الأمر بالنسبة إلى بهمان غوبادي، لم يعد مجرد ترف أسلوبي. بموازاة النجاح العالمي، واجه المخرج المشاكس (41 سنة) تضييقاً من الرقابة في إيران، حتى صدر قرار رسمي بمنعه من التصوير، سنة 2007.قبل ذلك، بدأ غوبادي مساعد مخرج مع المعلم عباس كياروستامي في «لتعصف بنا الرياح» (1999)، ثم قفز اسمه مخرجاً إلى مصاف العالمية، منذ النجاح الذي حقّقته باكورته «وقت لانتشاء الخيول». ورغم أنه سينمائي مقلّ، لم يقدّم سوى خمسة أفلام روائية طويلة، إلا أنّ كل عمل جديد له يثير ردة الفعل المزدوجة نفسها: نجاح عالمي في الخارج مقابل استياء رسمي وتضييقات رقابية داخل إيران.
وقد وصلت معركة لي الأذرع بينه وبين المؤسسة السينمائية الرسمية في بلاده إلى نقطة اللارجوع، إثر فيلمه الثالث «السلاحف تطير أيضاً» (2005)، الذي أثار حفيظة الرقابة فمنعت عرضه في إيران، لأنه تناول الانعكاسات الاجتماعية الوخيمة للحرب الإيرانية ــــ العراقية على سكان المناطق الريفية الفقيرة المتاخمة للحدود. تناول غوبادي ذلك من خلال قصة واقعية لمجموعة أطفال صاروا يتامى بسبب الحرب، يعيلون أسرهم عبر جمع العبوات الناسفة من الحقول الملغومة التي خلّفتها الحرب، لإعادة بيعها في السوق السوداء.
بعد ذلك بعامين، رفضت السلطات منح التأشيرة الرسمية لفيلم غوبادي الرابع «انتصاف القمر» Half Moon للمشاركة في المهرجانات الأجنبية. لكنه لم يأبه بذلك القرار، وسافر بالفيلم لعرضه من دون إذن رسمي في «مهرجان سان سيباستيان» حيث نال الجائزة الذهبية. ما أعطى حجةً للمؤسسة الثقافية الرسميّة، بمنعه من تصوير أي عمل جديد.
لكن كل تلك التضييقات لم تلجم الروح المشاكسة التي يشتهر بها صاحب «أغنيات من بلد أمي». إذ قرّر أن يصوّر «القطط الفارسية» سراً ومن دون تمويل، وكان عتاده الوحيد دراجة نارية وكاميرا رقمية صغيرة. هكذا، رافق غوبادي موسيقيين شابين، يؤديان في الفيلم دورهما الحقيقي في الحياة، وصوّر العقبات التي تعترض مساعيهما لتأسيس فرقة روك. وإذا بتلك الرحلة الشيقة والمحفوفة بالمخاطر، تتحوّل إلى لقطة مقربة أبرزت بوادر «الثورة الصامتة» التي كانت نيران نقمتها تتنامى سراً في العالم السفلي، قبل أن تخرج إلى العلن إثر الانتخابات الرئاسية الأخيرة.