بيار أبي صعب
طموح أصدقاء محمود درويش وأهله طبعاً، ومحبّيه على امتداد العالم، كان أن يدفن الشاعر الكبير بين أهله في أرض الجليل... لكن الاحتلال الإسرائيلي رفض لدرويش أن يعود إلى مسقط رأسه ومنبت جذوره، ولو في تابوت... فظلّ الشاعر يرسم الحدود الحقيقيّة للوطن، وطيفه يرعب الدولة الغاصبة. أما السلطة الوطنيّة، فلم تطالب الاحتلال بهذا الحق الرمزي، كما فعلت أنتيغونا مع جثّة أخيها متحدية قرار خالها الطاغية الملك كريون... بل إن إدارة أبو مازن، خنقت في المهد، أي نقاش من هذا النوع حول «عودة» محمود درويش إلى البروة... مكتفيةً بالاحتفاء بضريح الشاعر في رام الله عند تلّة «مطلّة على القدس»...
وانتهى الاستعراض، وانطفأت الكاميرات، وعاد كلّ إلى منفاه أو سجنه أو هزائمه الفرديّة والجماعيّة، أو موته الحميم المؤجل. ونسي الجميع الضريح... إلى أن جاءتنا من رام الله، خلال الأيام الأخيرة، أخبار وشهادات من كتّاب وشعراء ومثقفين، تفيد بأن هذا المكان الذي يفترض أن يكون ضريح الشاعر، بات أرضاً مهجورة ومهملة... بل إنّه تحوّل مكبّ نفايات.
نشر زياد خداش في «الأيام» (رام الله) قبل فترة شهادة حول الموضوع، جاء فيها: «ما الذي يمكن أن يفعله الواقف هناك في المساءات الباردة، غير الهرب إلى الأفق؛ خجلاً من محمود؛ حين يرى تراكم بضعة أكياس من النايلون أو زجاجات عصير هنا أو هناك، وذبول الورد وانحناءه، وشحوب العشب في محيط المكان وعشوائيته وتراكمه بشكل فوضوي، فوق رموش عيني أجمل الشعراء، وأمام غضبه وأناقته ونعاسه؟». وأضاف: «نحب أن نرى نوافير ماء صلبة تصعد إلى السماء، الرجل الذي ملأ حياتنا نوافير وأزهاراً ونبيذاً وندى ومشاعر وصوراً ورؤى ومعرفةً وكلمات، يعيش بلا ماء. هل تذكرون صوته وهو يتدفق بالعطش في إحدى نوافيره/ قصائده: ماء ماء ماء...؟».
ثم مرّت الأيّام مجدّداً، وبقيت الأمور على حالها. قيل إنّه جرى تعيين حارس للضريح في الأيام القليلة الماضية. لكنّ الأحوال لم تتغيّر، كما يؤكّد لنا أحد الأصدقاء: «ما زالت القمامة هناك، والورد ذابلاً، والطابع العام للضريح صحراوياً. ولا ماء لا ماء لا ماء».